الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


إعلانات أفقية

الجمعة، أكتوبر 31، 2025

«الكتابة بين الدماغ والآلة: سردُ العقل في عصر الواجهة الدماغية–الحاسوبية» ترجمة عبده حقي


في فضاءٍ يشبه حلمَ خيال علميّ، حيث تتشابك الأزمنة وتتداخل الحدود بين الفكر والآلة، تنشأ تقنية واجهة الدماغ–الحاسوب (Brain-Computer Interface – BCI) كمنفذٍ جديد إلى سردٍ محتمل، يحمل في طياته كلّ من إمكانيات جمالية وإشكاليات أخلاقية عميقة. تبدو القصة التي تروى من خلال هذا المنفذ وكأنها رواية ترتبط بالدماغ بوصلاتٍ كهربائية، تتحوّل عباراتُ الكاتب إلى موجاتٍ دماغيةٍ وبياناتٍ حاسوبية، فتُكتب في الواقع القصيّ المغاير.

في هذا المقال، نستعرض أولاً كيف تفتح هذه التقنية آفاقاً سرديةً جديدةً، ثمّ ننتقل إلى تأمّلٍ أخلاقيّ جذريّ: كيف تغيّر هذه الواجهات مفهوم الذات، الخصوصية، والمساءلة؟ أخيراً، نطرح سيناريوهات محتملة لمستقبلٍ سرديّ يُشكّله الدماغ والآلة معاً، كما يفعل الكاتب.


تبدو واجهة الدماغ–الحاسوب وكأنها «قلمٌ فائق سريع» يكتب مباشرةً من باطن العقل، فتكلّم الموجات العصبية يشبه أن تُمنح اليد قلم-ضوءٍ ينسج نصّاً من الأفكار. في كتاباتٍ منها مراجعة شاملة نشرتها BMC Medical Ethics، وُجد أن التقنية تثير «قضايا جوهرية تتعلق بالهوية، الاستقلال الذاتي، الخصوصية، والعدالة». BioMed Central من جهةٍ أخرى، يعرض بحثٌ في Nature Human Behavior كيف يجب أن تتبع الحوكمة المنطق التفصيليّ عند إدارة هذه التقنيات. Nature

من الناحية السردية، يمكن أن تُحوّل BCI سرد الكاتب إلى تجربة متعددة الحواس: فليس النصّ وحده ما يُقرأ، بل شعورٌ يمثل لحظة «قراءة» الدماغ–الحاسوب، حيث تُلتقط فكرةٌ أو صورةٌ عقلية وتتحوّل إلى نص أو صورة أو مشهد. بهذه الطريقة، يتراجع الفاصل بين الكاتب والقارئ، بين الراوي والنص، فقد يصبح الدماغ ذاته ملتقى سردياً. يمكن تصور رواية تُكتب ـ- أو تُقرأ -- بهذه الواجهة: لتكون كلماتها نجوماً في عتمة الدماغ، ولتُشاهدها الآلة كأنّها لوحة سينمائية داخل العقل، ثم تُترجَم إلى كلماتٍ تُعرض على الورق أو الشاشة. هذا التحوّل، مثل مرآةٍ انعكاسية بين الفكر والآلة، يُعيد إنتاج مفهوم السرد كحوارٍ بين دماغٍ وآلة، وليس فقط بين إنسانٍ وإنسان.

ومع ذلك، فإنّ جاذبية هذا المشهد لا تُخفي ظلالاً طويلة: ثمة إشكاليات أخلاقية تقف في صفوف سرد الدماغ–الحاسوب، كمحاورٍ محتدة. أولاً، ما منّا يملك «الذات» حين تنسج الآلة أفكارنا؟ دراسات عديدة تشير إلى أن BCI تغيّر مفهوم الشخصيّة؛ ففي مقاله بمجلة AMA Journal of Ethics، يرى الباحثون أن الدماغ لم يعد «معزولاً في الجمجمة» بل صار مفتوحاً على إمكانياتٍ غير مسبوقة من المتابعة والتشكّل. journalofethics.ama-assn.org ثانياً، الخصوصية تصبح لغزاً: بيانات الدماغ يمكن اختراقها، أو استخدامها بطرق غير مقصودة، ما يُهدد ما يُسمّى «حرية المعرفة» أو “cognitive liberty”. Inside Precision Medicine+1 ثالثاً، العدالة تحدّث ذاتها: من يملك هذه التكنولوجيا؟ هل ستكون حكراً على طبقة ميسورة، أم أن الشعوب والمهمشين سيجدون أنفسهم مع استبعادٍ عميق؟ Inside Precision Medicine

أما من الناحية الجمالية، فإنّ التقاء الدماغ والآلة يولّد أسئلة عن معنى الفنّ والكتابة: هل ما يُنتَج من هذه الواجهة نصٌ حقيقيّ؟ أم هو «إعادة إنتاج آليّة» لفكرٍ إنساني؟ هل يصبح المؤلّف هو الدماغ أم المهندس أم المُشتغل بالبيانات؟ وكأنّ الكاتب يصبح «معقّباً تقنياً» يفكّ شيفرة الدماغ ليحوّلها إلى سرد. وهذا يضعنا في مفترقٍ: إما أن نحتفي بفتح آفاقٍ سرديةٍ لا نهائية، أو أن نركن إلى تحذيرٍ بأنّ هذا الفتح قد يحجب الذات في بحيرةٍ من البيانات.

في ضوء كلّ ذلك، يبدو مستقبل السرد باستخدام الواجهات الدماغية–الحاسوبية كسيناريو يقترب من روايات ما بعد البشريّة، حيث الدماغ يستعير الآلة فتتحوّل الكتابة إلى ممرّ عصبي، والقراءة إلى تدخّل مباشر في شبكات الإشارة الدماغية. ربما نرى رواية تُقرأ بالكهرباء، تُكتب من موجات الدماغ، تُعرض على الواقع الافتراضي، أو ربما يُصبح القارئ جهازاً يقود سرداً داخلياً، لا بمدخلاتٍ تقليديةٍ بل عبر إشارةٍ عصبيةٍ تحكي نفسها. لكن في هذا التحوّل، تكمن مسؤولية كبيرة: يجب أن تُصمَّم هذه التجربة بحسّ أخلاقيّ صريح، بحوكمةٍ واضحةٍ، وبوعيٍ ثقافيّ بأنّ ما نعدّه «إبداعاً» ليس محض أداةٍ بل انعكاسٌ لتشكّلِ الذاتِ والعالم.

في الختام، كتابةُ السرد في عصر واجهات الدماغ–الحاسوب ليست مجرّد تقنية جديدة، بل إعادةٌ للنظر في ما يعني أن نكون كُتّاباً، وما يعني أن نقرأ، وما يعني أن نمتلك «الفكرة». إنها روايةٌ تُصاغ على حاجزٍ بين الأعصاب والدوائر، حيث تصبح الكلماتُ التي نكتبها صدىً في الدماغ والآلة معاً. ومن هنا، تقع أمامنا مهمةٌ مزدوجة: أن نحتفي بإمكانات هذا التحوّل، وأن نُمارس نقداً يقظاً حتى لا يتحولَ السردُ إلى تسليمٍ أبديّ لتقنيّةٍ لا تعبّر عن الإنسان إلا بوصفه موجةً عصبيةً تُقرّها الآلة.




0 التعليقات: