الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


إعلانات أفقية

الأربعاء، أكتوبر 29، 2025

نص سردي (أنا العائد من بابِ اللاعودة) : عبده حقي


أَنا العائدُ من بابِ اللاعَودة، أجرُّ ظِلِّي كقَصيدةٍ تَعِبَت من النَّشيد. في جيبي رمادُ الأيامِ القديمة، وفي قلبي سُؤالٌ يَتمدَّدُ كَجرحٍ لا يَجدُ ما يَضمدُه. كُنتُ هناك، على حافَّةِ النِّسيان، أبحثُ عن وجهٍ يُشبِهُني، فلم أجد إلّا الغُبارَ يُصافِحُ الغُبارَ.

كنتُ أتقدَّمُ إلى الوراءِ، وأتراجعُ إلى الأمامِ، كمن يَكتُبُ على مَاءٍ لا يَثبُت. كلُّ خُطوةٍ كانت تُنقِصُ منِّي نَجمةً، وتُضيفُ إلى الظّلامِ بَيتًا آخرَ من الرِّثاءِ. ورغمَ ذلكَ، كُنتُ أُغنِّي، لأنَّ الغناءَ هو الطَّريقةُ الوحيدةُ للبقاءِ على قَيدِ الشُّعور.

أنا العائدُ، لكنَّ الأرضَ لم تَعُد تنتظرني. كلُّ شجرةٍ صارت تَجهلُ إسمي، وكلُّ نهرٍ غيَّرَ مَجراهُ، كأنَّ الطبيعةَ اتَّفقت على أن تُخرِجَني من ذاكرتها. غير أنَّني ما زلتُ أزرعُ نفسي في القصيدةِ، وأنتظرُ أن تَنبتَ على جَدارِها يَاسمينةٌ تَعرفُني.

في الغيابِ، تَعلَّمتُ أنَّ الغُربةَ ليست في المكانِ، بل في الجُملةِ التي لا تَكتملُ. كنتُ أكتبُ كي أَنسى، فأزدادُ حضورًا. وكنتُ أُطفِئُ ناري، فتشتعلُ الكلماتُ في أصابعي كالعُودِ في يدِ مُتصوِّفٍ نسيَ السُّؤالَ وبقيَ في الصَّمتِ.

أَنا العائدُ من بابِ اللاعودة، أحملُ زَمني كجُرحٍ مُؤجَّلٍ، وأَفتحُ دفاتري على البياضِ لأرى إن كان القلبُ ما زالَ يَكتبُ بالدمعِ لا بالحِبر. أَنا المَسكونُ بالظِّلالِ، أَتَنفَّسُ الشَّكَّ كاليقين، وأَستيقظُ كلَّ فجرٍ على اسمٍ لا يُجِيبُ حينَ أُناديه.

رأيتُ في طريقي وجوهًا تُشبهُ موتي، وأُخرى تُشبهُ نجاتي. كلُّهم كانوا أنا، وكلُّهم كانوا الغُرباءَ الذين يَعبُرونَ منّي إلى مَصيرٍ آخرَ. ما عُدتُ أفرِّقُ بينَ الطريقِ والقصيدةِ، بينَ المَوتِ والمجازِ، بينَ الغيمِ والعَينِ التي تَراه.

أَنا العائدُ من بابِ اللاعودة، لا أحملُ سوى صَوتي، ولا أُريدُ إلّا أن يَبقَى هذا الصَّوتُ في الأثيرِ طويلاً، كَنَجمةٍ أَطفأها البحرُ ولم يَبلَعْها. أنا الذي خَسِرتُ يقيني كي أَربَحَ سؤالي، وخَسِرتُ اسمي لأُولَدَ من نداءٍ لم يُسمَع بعد.

في الليلِ، أَجلسُ إلى ظِلِّي، نتحادثُ بصمتٍ طويلٍ. هو يَذكُرُني، وأنا أَنساهُ قليلًا. نَضحكُ على ماضٍ لم يَحدُثْ، ونَبكي على حُلمٍ لم يَكُنْ. هكذا أَعيشُ، بينَ ضِفَّتينِ من الوَهمِ، أُرمِّمُ ذاتي بالعبارةِ، وأَحيا بالشِّعرِ كما يَحيا الغريقُ بأنفاسِ موجةٍ أَخيرة.

أَنا العائدُ من بابِ اللاعودة، وما زالَ الطَّريقُ يُكملُني. فَكُلُّ عَودةٍ بَحرٌ، وكُلُّ بَحرٍ بدايةٌ أخرى. ولأنَّ الشِّعرَ لا يَنتهي، فإنَّني أَمشي في غيابي، وأَكتُبُ كي لا أعودَ.

عبده حَقّي

0 التعليقات: