الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


إعلانات أفقية

الأربعاء، أكتوبر 29، 2025

قراءة في كتاب الضحالة: ما الذي تفعله الإنترنت بأدمغتنا للكاتب الأمريكي نيكولاس جي كار: عبده حقي


يقدّم الكاتب الأمريكي نيكولاس كار في كتابه «The Shallows» قراءة نقدية عميقة لواحدة من أخطر القضايا المعرفية في عصرنا: أثر الإنترنت على طريقة تفكير الإنسان، وعلى بنيته العصبية، وعلى مستقبل القراءة والتأمل والوعي.

ينطلق كار من فرضية أساسية مفادها أن الدماغ البشري ليس ثابتًا في تكوينه، بل هو جهاز مرن يتبدّل تبعًا للتجارب والوسائط التي نتعامل معها. وبما أن الإنترنت بات الواجهة اليومية التي نطلّ منها على العالم، فإن أثره يمتد إلى أعماق الجهاز العصبي، فيعيد تشكيل طرائق الانتباه والتذكّر والفهم.
لقد غيّر الإنترنت علاقة الإنسان بالمعلومة: بعد أن كانت القراءة فعلًا تأمليًّا متدرّجًا يتطلّب صبرًا وتركيزًا، أصبحت الآن مجرّد تصفّحٍ سريعٍ يقوم على القفز من رابطٍ إلى آخر، وعلى استهلاكٍ سطحيٍّ متواصلٍ للمحتوى.

يستعيد كار مسار تطور أدوات المعرفة عبر التاريخ — من الطباعة إلى الكتاب الورقي، ثم إلى الشاشة الرقمية — ليُبيّن أن كل أداة تركت بصمتها في طريقة تفكير الإنسان. فالكتاب الورقي مثلًا علّمنا الصبر والقراءة المتعمقة، بينما تقودنا الوسائط الرقمية إلى نمطٍ جديدٍ من الإدراك يقوم على التجزئة والسرعة والاستجابة اللحظية.
إن هذا التحوّل لا يمسّ المعرفة فحسب، بل يمتدّ إلى البنية الإدراكية ذاتها، بحيث يغدو العقل الحديث شبيهًا بمتصفح إنترنت مفتوحٍ على عشرات النوافذ في آنٍ واحد.

يرى كار أن الاستخدام المفرط للشبكة العنكبوتية غيّر طبيعة الذاكرة البشرية. فالاعتماد المتزايد على محركات البحث والمصادر الرقمية جعلنا ننقل وظيفة التذكّر من الدماغ إلى الشبكة، أي من الذاكرة الداخلية إلى الذاكرة الخارجية. ومع الزمن، تصبح قدرتنا على الاستحضار المباشر للمعرفة أضعف، لأننا لم نعد نحفظ، بل نعرف فقط "أين نجد المعلومة".
كذلك تراجعت القدرة على التركيز في نصوص طويلة، وحلّت محلها رغبة دائمة في التنقّل السريع والاطلاع المقتضب، مما يؤثر سلبًا في التفكير النقدي وفي العمق المعرفي الذي يحتاج إلى بطءٍ وتأملٍ وتتابعٍ منطقي للأفكار.

يُحسب لنيكولاس كار أنه أطلق نقاشًا فلسفيًا ومعرفيًا واسعًا حول تأثير الوسائط الجديدة في الوعي الإنساني. فهو لا يعادي التكنولوجيا، بل يطالب بوعيٍ نقديٍّ تجاهها. ومع ذلك، يَعتبر بعض النقّاد أن رؤيته يغلب عليها الطابع التشاؤمي، إذ يتجاهل أحيانًا الفوائد التي وفّرها الإنترنت في توسيع أفق المعرفة، وتكثيف فرص التواصل الإنساني، وتسريع الإبداع التعاوني.
لكن قيمة الكتاب لا تكمن في التنبؤ بالمستقبل بقدر ما تكمن في تنبيهنا إلى الثمن الذي ندفعه مقابل السهولة والسرعة، إذ يذكّرنا بأن المعرفة العميقة تحتاج إلى وقتٍ وصبرٍ ومسافةٍ بين القارئ والمعلومة.

في العالم العربي، حيث تتسارع وتيرة الرقمنة ويتحوّل التعليم والإعلام نحو الفضاء الإلكتروني، يكتسب هذا الكتاب بعدًا خاصًا. فهو يتيح لنا التفكير في أثر التحوّل الرقمي على لغتنا وثقافتنا وطرائق تفكيرنا، وكيف يمكن أن نحافظ على ملكة التأمل وسط زحمة المحتوى السطحي.
إنه دعوة إلى التوازن بين الانفتاح على التقنية والحفاظ على عمق القراءة الورقية والتفكير التحليلي الذي ميّز الحضارات الكبرى.

«The Shallows» ليس كتابًا ضد الإنترنت، بل ضد اللامبالاة الفكرية التي قد تصاحبه. إنه مرآة تكشف كيف يمكن للتكنولوجيا أن تمنحنا أجنحة السرعة، لكنها في الوقت ذاته قد تسرق منا جذور التأمل.
في النهاية، يدعونا نيكولاس كار إلى أن نعيد التفكير في علاقتنا بالشاشة، لا بوصفها نافذةً على العالم فحسب، بل كمرآةٍ لما نُصبح عليه نحن أنفسنا — كائناتٍ معلّقة بين العمق والسطح، بين المعرفة والسرعة، بين التأمل والاندفاع.


0 التعليقات: