في عالم سريع الإيقاع، باتت الثقافة أكثر من مجرد نشاط مُتنفّس: هي مرآةٌ لذات، وشهادةٌ على تحولات، وميدانٌ للتداخل بين المحليّ والعالميّ، بين اللغة والمكان، بين الزمان والذاكرة. في هذا الرصد الثقافي الذي أوقعه «عبده حقي»، نتوقّف عند ثمانية محطّات إبداعية ومعرفية، من الفنّ السريالي إلى المعارض الكبرى، ومن الحوارات إلى الفلسفة، لنسعى إلى قراءةٍ معمّقة تجمع بين السياق والتجلّي، بين السؤال والجواب.
. الفن السريالي وتجلّيات الحلم
يُشكّل المعرض الموسوم «تجليات الحلم» فضاءً مخصّصاً لـشمس الدين العوني، حيث الفنّ السريالي يجتمع بالفنانين التونسيين والأجانب. هنا، لا ننظر إلى اللوحة باعتبارها مجرد مادة بصرية بل بوصفها طقسَ عبورٍ إلى الحلم، وإلى ما وراء الحدود الجغرافية واللغوية. الفنّ السريالي، بأدواته الاستعارية والمفاجئة، يخلق «تجليّات» – أي انكشافات لحالات نفسية أو رمزية أو اجتماعية، قد لا تُقال بالكلام.
يقول أحد الفنانين المشاركين: «في اللوحة لا أبحث عن شكلٍ فقط، بل عن ذاكرةٍ تتحرّك في الظلال». وهنا تكمن قوة المعرض: ليس فقط كعرضٍ بصري، بل كمقام لالتقاط ما لم يُنطق بعد. إن الفنان التونسي إلى جانب نظيره الأجنبي يصبحان معا في موقع «مترجمين للحلم»، يُعيدون تشكيل الواقع بالرمز، ويصبح الحلم مساحة تحرّر.
ومن المهمّ أن نشير إلى أن تجمّع فنانين من تونس وخارجها يشير إلى رغبةٍ في تجاوز الحلقات المحلية المغلقة، في زمن بات الفنّ فيه «عابراً للحدود». في هذا الإطار، يصبح المعرض ليس فقط عرضاً لوحاتٍ بل منصة للحوار بين مختلف التجارب، ومنبراً لسؤال: ما هو الحلم الذي نشتغل عليه اليوم؟ وهل الفنّ السريالي يكشفه أو يخلقنا نحن؟
هنا تتجلّى علاقة الفنّ بالسياسة والهوية: حينما يُعرض فنان تونسي قد يكون حاملاً لِذاكرة ما، ولتاريخ ما، ولتحرّر ما، بجانب فنان أجنبي يحمل ذاكرة أخرى، يصبح الحلم مشتركاً، والتجلّي كذلك. إن ما يُحاول «تجليات الحلم» أن تجسّده هو أن الحالة الفنية ليست مجرد فعل فردي بل فعل مشترك، يشترط التواصل بين الذات والآخر، بين الترجمة والتلقي، بين الحلم والعمل.
٢. معرض الشارقة 2025: احتفاء بالكتاب والتنوّع
ينطلق معرض الشارقة الدولي للكتاب في دورته لعام 2025 من ٥ إلى ١٦ نوفمبر في مركز «إكسبو الشارقة»، في ما يُعدّ ثالث أكبر معرض للكتاب في العالم، ومن أبرزه في الحراك الثقافي العربي.
في هذا المعرض، تُنظّم دور نشر مثل منشورات رامينا رؤيةً نحو «مشهد نشر عابر للغات والحدود». وهو ما يحيلنا إلى مفهوم التنوّع: لغوياً، ثقافياً، جغرافياً. في عالمٍ رقميّ يتحدّث عن الترجمة وعن العبور نحو الآخر، تصبح دور النشر جسوراً لا قلاعاً، ومعارض الكتب منصّات للتلاقي لا للاختزال.
وإذا كانت الكتب هي «أوراقٌ» تنقل فكر المؤلف إلى قارئه، فإنّ المعرض هو المجال الذي تتحوّل فيه الورقة إلى حراك، والقارئ إلى مشاركٍ، والمشاركة إلى حدثٍ ثقافي. ففي برنامج المعرض مقالات، وجلسات، وتوقيعات، وانتشار لدور النشر من مختلف القارات.
من هنا، يُطرح سؤالٌ مهمّ: هل ما نقرأه اليوم هو ذات الكتاب الذي نقرأه أمس؟ أو هل المكتبة في العالم العربي هي ذاتها التي كانت؟ فحين نحتفي بالتنوّع، فإننا نحتفي بالاختلاف، وبالتحرّر من المركز الواحد، وبحقّ الآخر في البوح والمناخ والوجود.
ولعلّ ما يلفت في هذه النسخة هو أن «منشورات رامينا» تختار أن يكون حضورها ليس فقط محلياً بل عابراً، ما يُعطي دلالة رمزية على أن النشر يجب أن يتخطّى الضفّة الثقافية الواحدة، وأن يصبح مشهداً متعدّداً، متعدد اللغات، والتجارب، والأصوات.
٣. حوار: أمجد توفيق – إبداع يتحدّى الزمن
في هذا المحور، نلتقي بـأمجد توفيق في حوارٍ مع الكاتب الصحفي حامد شهاب، تحت عنوان: «إبداع يتحدى الزمن… الرواية، الجوائز، والذكاء الاصطناعي». في هذا الحوار نفهم أن الإبداع لا يعيش في معزلٍ عن التطوّر، سواء كان بتقنيات الذكاء الاصطناعي أو بمنح الجوائز التي تشكّل منارات في مسار الكاتب.
يقول توفيق في إحدى فقرات الحوار: «الرواية اليوم ليست فقط سرداً بل فضاء للتجريب، وللاشتباك مع الزمان والمكان، ومع أدوات متغيّرة». هنا يُطرح سؤال الذكاء الاصطناعي: هل هو منافس أم أداة؟ هل يغيّر بنية السرد أم يقوّيه؟ وهل الجوائز التي تمنح اليوم هي ذات الجوائز التي كانت تمنح قبل عقدٍ من الزمان؟
إن إبداع الكاتب اليوم يواجه تحديات متعددة: السرعة الرقمية، تشظّي الانتباه، التنوّع الزمني والمكاني. لكن في هذا الانكشاف يكمن الفرَص: أن الرواية تتجاوز التقليد، وتستعدّ لأشكال أكثر انفتاحاً، وأكثر تجريباً، وأكثر تشكيكاً. وكذلك، الجوائز لم تعد مجرد تكريم للكاتب بل ربما حاضنةٌ لكتابةٍ تجريبيّة أو متابعة لساحة متغيّرة.
من جهة أخرى، الحوار يفتح باب التساؤل عن علاقة الكاتب ببيئته: هل الرواية اليوم تنطلق من الواقع أم من تخيّل الواقع؟ وهل الجوائز تعطي لكتابةٍ ما قيمةً إضافية أم تزجّها في إطارٍ مؤسّسي؟ وفي زمن الذكاء الاصطناعي، هل يصبح الكاتب شريكاً في صنع النصّ مع آلة؟ أو يبقى هو الموجّه؟
٤. الأدب: الروائي أحمد السماري «سماري يُنيخ فيلق الإبل في بيت الثقافة»
نقف عند أحمد السماري، الذي في عنوانه المُركّب – «يُنيخ فيلق الإبل في بيت الثقافة» – يحيل إلى الرمز والتمثيل: الإبل كحاملٍ لجذور الصحراء، للهوية، للمرونة، ولذاكرة الجماعة. بيت الثقافة ليس فضاءً جامداً، بل ساحة، تُحشَد فيها ذاكرة القِبَل والمكان، وتُعاد صوغتها في النصّ الروائي.
في عمل السماري، يصبح السرد أداة لاستئناف ما يُهمَل أو يُهمّش: تلك الأصوات التي تؤرخ للصحراء، للترحال، للإبل كبُعدٍ حياتي واجتماعي وثقافي. إن «الفيلق» هنا ليس جيشاً حقيقياً بل جماعة سرديّة، تحشد اللغة والرمز والمكان.
ويُطرح على القارئ سؤالٌ: كيف يُعيد الروائي في زمن تتواصل فيه المدن وتُهمّش الأطراف، وكيف يُعيد للحساء الثقافي تلك النكهة التي لم تُقرأ كثيراً؟ والأدب هنا ليس احتفالاً بالجمال فحسب، بل استعادةٌ للهوية وللذاكرة، وتحويلهما إلى نصّ مكتوب يشارك في التكوين المعرفي للمجتمع.
٥. الشعر: بيت الشعر بالشارقة – الخضير وعيسى والعنزي يتألّقون
في رواق الشعر، نحتفي بـبيت الشعر بالشارقة حيث يبرز الشاعران الخضير وعيسى والعنزي في مشهد تألق شعري. هذا التألق ليس مجرد أداء لفظي بل احتفاءٌ بصوتٍ ــ بصوته الخاص ــ في فضاء مفتوح للزمن والمكان.
الشعر في هذا السياق يُعيد تنشيط الحضور اللغوي، ويُعيد تشكيل العلاقة بين الشاعر والجمهور، بين الكلمة والمكان، بين الأصل والاختلاف. يقول أحدهم: «الشعر اليوم هو أن تقول بصوتك ما لم يُقلّ بعد، وأن تُعيد فتح المساحة التي يغلقها الزمن». وهنا يتحقّق حضور الشاعر كـ «راوي للضمير»، وكـ «حارس للذاكرة»، وليس فقط كمُتلقٍ.
كما أن حضور شعراء من بيئة عربية متنوّعة في بيت الشعر يعكس أن الشعر ليس محتكراً لجغرافيا معيّنة أو لغة واحدة، بل هو فضاء شموليّ، يتجاور فيه المختلفون، ويتداخل فيه الصوت المحلي مع العالمي.
٦. معارض الكتب: الصالون الجزائري الدولي للكتاب – الكتاب يجمع العالم
تحت عنوان «الكتاب يجمع العالم في الجزائر.. صالون الفكر والإبداع يفتح أبوابه»، نُسلّط الضوء على الصالون الجزائر الدولي للكتاب كمشهد ثقافي يجمع التنوّع والتبادل، والتصادم والتلاقح. المعارض الكبرى للكتاب ليست فقط مساحات تجّار أو دار نشر، بل ساحات للتفكير النقدي، للترجمة، للنشر والتوزيع، ولحضور القارئ.
في الجزائر، كما في غيرها من العواصم الثقافية، يصبح المعرض علامة على الانخراط في شبكة العالم، وعلى الرغبة في أن يكون «الكتاب» ليس محلياً فحسب بل جزءاً من الحراك العالمي. وهذا التعبير «يجمع العالم» ليس مجازاً بل واقعاً: دور نشر من القارات تشارك، وكتابٌ من لغات متعددة يوقعون، وجمهورٌ متنوّع يحضر ليستمع ويطرح.
وقد كتب بعضهم أنّ «ما يحدث في الصالون ليس فقط تقديم كتاب بل بناء جسور بين الشعوب». من هنا، يُطرح السؤال: في زمن الرقمنة، ما مصير المعرض؟ هل سيبقى الحضور الفيزيائي ضرورة؟ أعتقد نعم، لأن الجماعة واللقاء والتبادل المباشر، هي تجليّات لا يمكن للصفحة الرقمية وحدها أن تحققها.
٧. فلسفة: آين راند ــ «الموضوعية البرّاقة سلعة استهلاكية» (د. نعيمة عبدالجواد)
في هذا المحور، نُعيد قراءة مقالة نعيمة عبدالجواد تحت عنوان «الموضوعية البرّاقة سلعة استهلاكية: آين راند». middle-east-online.com+1 الفلسفة التي طرحتها راند، والمعروفة بـ «الموضوعية» (Objectivism)، مدعّمة بفكرة أنّ الواقع موجود مستقلاً عن الوعي، وأنّ الإنسان، بعقله وإنتاجه، يصنع حياته. atlassociety.org
لكن ما إذا كانت هذه الفلسفة أصبحت «سلعة استهلاكية»؟ هذا ما تستشفه المقالة: حين تتحوّل فكرة إلى شعار، وحين تُستخدم كخارجية لتبرير أنماط استهلاكية أو تجارية أو سياسية، فإنها تفقد بعضاً من عمقها الأصلي. يقول النص: «الموضوعية ليست مجرّد عقيدة بل مشروع أخلاقي للحياة». atlassociety.org
ومن هنا، يُطرح السؤال الثقافي: كيف تُقرأ الفلسفة اليوم في العالم العربي؟ هل تُختزل إلى جملةٍ على غلاف كتاب، أو تُحوّل إلى تجربةٍ سوقية تُروّج «للعقلانية» كمنتَج؟ أو هل تظلّ عملًا فكرياً ينشّط السؤال والجدال؟ في زمن التبسيط والملخّصات، هل بقيت الفلسفة حقلاً للحوار أم أصبحت أداة للتسويق؟ هذا ما نحتاج أن ننتبه له كمثقّفين وكتّاب.
٨. أفلام: المهرجان الوطني للفيلم بالمغرب – بين الاحتفاء بالإبداع وإقصاء الهوية الأمازيغية
نُغمِض العين قليلاً على عالم الصورة المتحرّكة، لنقف عند المهرجان الوطني للفيلم بالمغرب، حيث يُحتفى بالإبداع السينمائي، لكن في نفس الوقت يُثار موضوعٌ حساس: الهوية الأمازيغية وإقصاؤها أو تهميشها. هنا، الثقافة البصرية لا تقلّ أهميّة عن الثقافة المقروءة، بل هي مجال آخر للصراع وللتعبير.
في المغرب، حيث الهوية متعددة – عربية، أمازيغية، إفريقية – يصبح الفيلم ليس ترفاً بل فضاء للتمثيل والتعبير، وللنموذج وللمنظور. وإذا كان المهرجان يحتفي بالإبداع، فلا ينبغي أن يغفل عن كل أصوات الهوية، وأن يفتح منبراً يتيح للكافة الحضور، وللأمازيغ أيضاً أن يقولوا بصورتهم. من دون ذلك، فإن تبنّي الإبداع يصبح نصفياً، والنشاط الفني يصبح ممثّلاً لجهة واحدة فقط.
في هذا الصدد، يصبح السؤال: كيف نُعالج في السينما – وفي كل الفنون البصرية – موضوع الهوية؟ وكيف نمنح المكان للجميع؟ وكيف نأنسّ للّحظة التي تقول: «ها أنا أنا»، لا فقط كامتدادٍ للحاضر بل كتنظيرٍ للماضي ورؤيا للمستقبل؟
خلاصة
في هذه الرحلة التي قمنا بها ــ من لوحاتٍ سريالية إلى مناظرات فلسفية، ومن المعارض الكبرى إلى الحوار الأدبي، ومن الشعر إلى السينما ــ يظهر أن الثقافة ليست نشاطاً مجرّداً، بل معركة مستمرّة على ما يعني أن نكون، وما يعني أن نقرأ، وما يعني أن نرى، وما يعني أن نحلم.
إن «التجليات» في العنوان ليست زخرفة كلامية، بل حقيقةٌ: تجليّات للحلم، للكتابة، للهوية، للفكر، للوجود. ولكلّ منا، ككاتبٍ أو قارئٍ أو مبدعٍ أو متلقٍّ، دورٌ في هذا الحراك: أن ندرك أنّ الإبداع والإنتاج الثقافي ليسا مفصولين عن الواقع، بل داخل الواقع، بل صِيغته. أن نُعيد للحظة القراءة وزنها، ولحظة التأمّل حضورها، ولحظة السؤال إمكانها.
ولأنت، أيها القارئ والكاتب والمثقف، أسأل: ما هي «تجليّتك» اليوم؟ وما هو الحلم الذي تريد أن تُبدعه؟ وأين مكانك في هذا الحراك الكبير الذي يُسمّى الثقافة؟ إذ كلّ عنوانٍ من هذه العناوين هو دعوة: دعوة للوقوف، للنظر، للتفكير، للتأمّل، وللتدخّل.
ختاماً، أقول: إن الكتابة ــ كما الفنّ، كما الفكر، كما السينما ــ هي احتفاءٌ بالإنسان، بذاك الانسان الذي يحلم ويتذكّر ويبحث ويكتب، والذي، في نهاية المطاف، لا يريد أن يكون مجرد متلقٍ، بل فاعلاً، مؤثّراً، محاوراً. فلتكن «تجليات الثقافة» مساحةٌ نعيشها لا نمرّ عليها فقط.
— عبده حقي








0 التعليقات:
إرسال تعليق