الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


إعلانات أفقية

الأحد، نوفمبر 02، 2025

من أرسطو إلى الذكاء الاصطناعي: تحولات الشعرية عبر العصور: ترجمة عبده حقي


مقدمة 
تُعدّ "الشِّعرِيَّة" أو Poetics من أعرق المفاهيم في تاريخ الفكر الإنساني، إذ تمثل علمًا يدرس القوانين الجمالية والفنية التي تُنظِّم الإبداع الأدبي، وخاصة الشعر. ومنذ أن صاغ أرسطو في القرن الرابع قبل الميلاد ملامحها الأولى في كتابه الشهير فن الشعر (Poetics)، ظل هذا المفهوم يتطور عبر العصور ليشمل مختلف أشكال التعبير الفني، من التراجيديا الإغريقية إلى القصيدة الرقمية في زمن الذكاء الاصطناعي.

أولًا: الجذور الكلاسيكية للشعرية

في بداياتها، ارتبطت الشعرية ارتباطًا وثيقًا بمفهوم المحاكاة (mimesis) كما طرحها أرسطو، أي تمثيل الواقع أو "تقليده" في العمل الفني. فقد رأى الفيلسوف الإغريقي أن الشعر محاكاة للأفعال الإنسانية، وأن غايته ليست مجرد التسلية، بل تحقيق نوع من التطهير النفسي (catharsis) من خلال استثارة مشاعر الشفقة والخوف لدى المتلقي.

قسم أرسطو الشعر إلى ثلاثة أنماط رئيسية: الملحمة، والمأساة، والملهاة، واعتبر أن أرقى هذه الأنماط هو التراجيديا التي تجسّد الصراع الإنساني بين القدر والاختيار، والخطيئة والتكفير. كما حدّد عناصر العمل الشعري المثالي في ستة مكونات: الحبكة، الشخصيات، اللغة، الفكرة، المشهد، واللحن. ومن هنا بدأ تشكّل الوعي النقدي الجمالي الذي سيؤسس لاحقًا لكل النظريات الأدبية الحديثة.

ثانيًا: من الشعرية الكلاسيكية إلى الرومانسية

مع نهاية القرن الثامن عشر وبداية التاسع عشر، ظهرت الشعرية الرومانسية التي تمردت على النماذج الكلاسيكية الصارمة. فبعد أن كان الإبداع خاضعًا لقواعد "المحاكاة" و"الانضباط الفني"، أصبح التركيز على الذات الشاعرة و"الخيال الفردي" باعتبارهما جوهر التجربة الشعرية.
عبّر ويليام ووردزورث عن هذا التحول حين قال إن الشعر "فيض تلقائي لمشاعر قوية تتأملها النفس في لحظات السكون"، بينما رأى صموئيل كولردج أن الشعر فعل من أفعال الخيال الذي يوحّد بين العقل والعاطفة.

في هذا الإطار، لم تعد الشعرية مجرد دراسة للأشكال، بل تحوّلت إلى تجربة وجودية تبحث عن معنى الإنسان في العالم، وعن علاقة اللغة بالروح والذاكرة.

ثالثًا: الشعرية الحديثة وما بعد الحداثة

مع مطلع القرن العشرين، ظهرت الشعرية الحداثية التي جسّدها شعراء مثل ت. س. إليوت وإزرا باوند، فكان شعارها "الابتكار الدائم" و"تحطيم البنى القديمة". ارتبطت هذه الشعرية بفكرة الاغتراب والانكسار في زمن الحروب والتغيرات الصناعية.
أصبح النص الشعري فضاءً لتجريب اللغة، وتفكيك الزمن، واستحضار الرموز الثقافية والأسطورية.
كتب إليوت في قصيدته الأرض الخراب عن انهيار المعنى والبحث عن خلاص روحي وسط فوضى الحداثة، في حين دعا باوند إلى "صنع الجديد" (Make It New) كقانون للكتابة الشعرية.

ثم جاءت الشعرية ما بعد الحداثية لتعلن موت المركز واليقين. فقد شكّك فلاسفة مثل جاك دريدا ورولان بارت في فكرة "المعنى الثابت"، معتبرين أن النص مفتوح على تأويلات لا نهائية، وأن القارئ شريك في عملية الخلق.
هكذا تحوّلت الشعرية إلى فضاء للعب اللغوي والتفكيك، وأصبح النص الشعري مختبرًا للتجريب والمعنى المؤجل.

رابعًا: أنواع الشعرية الحديثة

تنوّعت اتجاهات الشعرية في العصر الحديث إلى مدارس ومناهج متعددة، أبرزها:

  1. الشعرية الوصفية: تُعنى بتحليل النصوص من الداخل، وتفكيك بنيتها اللغوية والإيقاعية كما في البنيوية والشكليّة الروسية (ياكبسون، شكلوفسكي).

  2. الشعرية التاريخية: تدرس تطور الأشكال الأدبية عبر الزمن، وتربطها بالسياقات الثقافية والاجتماعية، كما نجد لدى ميخائيل باختين في دراسته للرواية.

  3. الشعرية التجريبية أو الرقمية: تبحث في كيفية توليد الشعر من خلال الوسائط الجديدة مثل الصورة والصوت والبرمجة والذكاء الاصطناعي، وهي ما يُعرف اليوم بـ الشعرية الرقمية.

خامسًا: الشعرية المعاصرة بين اللغة والتقنية

في زمن التحوّل الرقمي، أخذت الشعرية أبعادًا جديدة تتجاوز الورق نحو الشاشة، واللغة نحو الكود البرمجي.
ظهرت الشعرية الرقمية كفضاء للتفاعل بين الشاعر والآلة، حيث يُكتب النص ويتحوّل ويتجدّد في كل قراءة.
أعمال الكاتبة ن. كاثرين هايلز والشاعر الرقمي لوس بيكينيو غلازيير خير مثال على هذا النوع من الإبداع الذي يوظّف الخوارزميات والذكاء الاصطناعي والواقع المعزز لصياغة قصائد "حية" تتنفس عبر وسائط متعددة.

لقد أصبح الشعر في عصر الذكاء الاصطناعي مجالًا جديدًا لتجريب العلاقة بين اللغة والآلة والخيال، حيث يتحوّل النص إلى كائن تفاعلي يتجاوز حدود المؤلف الواحد ليصبح نتاجًا مشتركًا بين الإنسان والتقنية.
وهنا تبرز أسئلة جديدة حول مفهوم المؤلف، والملكية الإبداعية، والذوق الجمالي في زمن الخوارزمية.

سادسًا: الشعرية بين الذات والآخر

في المقابل، لا تزال الشعرية المعاصرة تسائل موقع الذات في العالم، من خلال تيارات مثل الشعرية النسوية التي أعادت الاعتبار لجسد المرأة وصوتها في النص، كما عند أدريان ريتش وهيلين سيكسو، أو الشعرية ما بعد الكولونيالية التي جعلت من القصيدة سلاحًا للمقاومة والهويّة، كما في أعمال ديريك والكوت ومحمود درويش.
هؤلاء جعلوا من الشعر فضاءً للذاكرة والمقاومة، ومن اللغة جسرًا بين التاريخ والجمال.

خاتمة

منذ أرسطو إلى زمن الذكاء الاصطناعي، ظلّت الشعرية مرآةً لتحوّلات الإنسان في علاقته باللغة والعالم.
لقد انتقلت من محاكاة الأفعال الإنسانية إلى محاكاة الوعي ذاته، ومن التراجيديا القديمة إلى الشعر الرقمي التفاعلي، دون أن تفقد جوهرها: البحث عن المعنى عبر الجمال.

فالشعرية، في نهاية المطاف، ليست علمًا للنصوص فحسب، بل علمًا للروح وهي تُحاول أن تُعيد تشكيل العالم بالكلمات.

توقيع:
عبده حقي


0 التعليقات: