في مشهد ثقافي عربي يزداد ثراءً وتنوّعًا، تتتابع الإصدارات الجديدة التي تجمع بين النقد الأدبي والفكر الفلسفي والرواية التوثيقية، لتؤكد أنّ الكتابة العربية المعاصرة لا تزال قادرة على التجدد والتأمل العميق في قضايا الجمال والهوية والذاكرة. فقد صدر حديثًا عدد من الكتب التي شكّلت علامات مضيئة في فضاء الأدب والفكر، من بينها مؤلفات لكلٍّ من عبد الله السمطي، ندى عبد الصمد، عائشة بنور، وعبد الصمد الكبّاص، وكلها تعبّر عن رؤى متقاطعة تنفتح على الإنسان وحسّه ومصيره.
في مجال النقد الأدبي، أصدر الباحث المصري عبد الله السمطي كتابه الجديد بعنوان إشراقات الفضاء القصصي: أفراح الهندال في سكين النحت، وهو دراسة نقدية متأنية في تجربة القاصة الكويتية أفراح الهندال. يتناول الكتاب أبعاد الفضاء السردي في مجموعة “سكين النحت”، محللًا تشكيل اللغة والبنية والمكان في النصوص القصصية، ومبرزًا كيف نجحت الكاتبة في تحويل اللغة إلى أداة نحْتٍ جماليّ للوجع الإنساني والذاكرة. وقد ركّز السمطي على إشراقات العتبات النصّية وبلاغة المشهد القصصي وتشكيلية الصورة، في عملٍ يُعد إضافة نوعية للنقد العربي الحديث، لما فيه من انفتاح على سرد جديد متحرّر من القوالب التقليدية.
وفي لبنان، تفتح الصحفية ندى عبد الصمد باب الذاكرة والتاريخ في عملها الوثائقي الأدبي حين انطفأت شرفات اليهود في وادي أبو جميل، الذي يستعيد تاريخ الجالية اليهودية في قلب بيروت من خلال شهادات واقعية وصورٍ مفعمة بالحنين. الكتاب لا يكتفي بتأريخ حيّ بيروتيٍّ قديم، بل يسائل معنى الغياب وتحوّلات المكان في الوجدان اللبناني، مستحضرًا أصواتًا بشرية غادرت ولكنها تركت أثرها في الذاكرة الجمعية. بهذا العمل تجمع عبد الصمد بين الحسّ الصحفي والرؤية الأدبية، لتعيد الاعتبار لزمنٍ كانت فيه الطوائف تتعايش داخل نسيجٍ إنسانيّ واحد قبل أن تفرّقه الحروب.
أما في الجزائر، فتطلّ الروائية عائشة بنور بروايتها الجديدة ماتريوشكا – أرواح من قطن، التي تُعيد عبر استعارة دمى “الماتريوشكا” الروسية بناء الذاكرة الطبقية للإنسان العربي، حيث تتداخل الحكايات مثل طبقات متعاقبة من الذات والوجع والتاريخ. في هذه الرواية، تمزج بنور بين الواقعي والرمزي، بين التذكّر والنسيان، في نسيجٍ لغويّ متين يجعل من الرواية رحلة داخل الأرواح التي لا تموت. بنور، المعروفة بحساسيتها العالية في تناول قضايا المرأة والهوية، تقدم هنا نصًا عن الذاكرة الأنثوية التي لا تنطفئ، بل تتوالد كما تتوالد الأرواح في طبقات القطن الأبيض الذي يحجب الألم ويحتويه في آنٍ واحد.
ومن حقل الفلسفة، يطلّ المفكر المغربي عبد الصمد الكبّاص بعمله الجديد أتذوق، أسمع، أرى: فلسفة من أجل الحواس، الصادر عن محترف أوكسيجين للنشر في أونتاريو، ليقدّم رؤية فلسفية مختلفة تنحاز إلى الجسد والحواس بوصفها طريقًا إلى الوعي. لا يتحدث الكبّاص هنا عن الحواس كأدوات للإدراك فقط، بل كتجارب وجودية تُعيد تعريف علاقتنا بالعالم، فيكتب عن العطر والملمس والطعم واللون باعتبارها “جغرافيا للمعنى”. يبدأ من التفاصيل اليومية – كفنجان القهوة أو رائحة المطر – لينتهي إلى تأملات في جوهر الحضور الإنساني. بهذا الكتاب، يضيف الكبّاص لبنة جديدة إلى الفلسفة العربية المعاصرة التي تسعى إلى التحرر من أسر العقل المجرد والانفتاح على الفلسفة الحسية والتجريبية.
تتضافر هذه الإصدارات الأربعة لتكوّن لوحة بانورامية للمشهد الثقافي العربي الراهن، حيث تتقاطع السردية بالتحليل، والتوثيق بالفلسفة، والأنثوي بالعالمي. فبين ناقد يضيء الفضاء القصصي، وصحفية تستعيد ذاكرة بيروت المنطفئة، وروائية تنسج أرواحًا من قطن، وفيلسوفٍ يتأمل في بهجة الحواس، يتجلّى أن الثقافة العربية لا تزال قادرة على طرح الأسئلة الجذرية حول الإنسان في علاقته بالمكان، بالزمن، وبذاته العميقة. إنها إشراقات جديدة تُعيد للأدب والفكر العربيين نبضهما الإنساني العابر للحدود، وتؤكد أن الكتابة ما تزال نافذة مفتوحة على الأمل والمعنى.
توقيع: عبده حقي








0 التعليقات:
إرسال تعليق