الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


إعلانات أفقية

الأحد، نوفمبر 02، 2025

محاورات بين فلاسفة ومفكرين معاصرين (18) حوار ماركس وإنجلز : ديفيد هيوم : عبده حقي

 


المقدمة: عندما صدر البيان الشيوعي عام 1848 بقلم كارل ماركس وفريدريك إنجلز، لم يكن مجرد نصٍّ سياسي يدعو إلى الثورة، بل كان حوارًا متخيَّلًا ومفتوحًا مع القارئ في كل زمان ومكان. في لغته الجدلية ونبرته النبوئية، خاطب البيان الإنسانية جمعاء، داعيًا إياها إلى إدراك أن التاريخ ليس سوى صراعٍ متواصل بين الطبقات. ومن خلال هذا النص القصير المكثَّف، أسّس ماركس وإنجلز لمنظور جديد في قراءة العالم: منظور يرى أن النظام الاقتصادي هو البنية العميقة التي تحدد مصائر الأفكار والقيم، وأن الثورة ليست فعلًا طارئًا، بل نتيجةٌ حتميةٌ للتناقضات الاجتماعية.

في سياق القرن التاسع عشر المضطرب، حيث كانت أوروبا تعيش ثورات متلاحقة وصعود البرجوازية الصناعية، كتب ماركس وإنجلز البيان الشيوعي بوصفه نداءً ثوريًّا ومرافعة فكرية في آن واحد. ما يجعل هذا النص استثنائيًّا هو أنه لم يتوجه إلى النخبة، بل إلى “البروليتاريا” — الطبقة العاملة التي تشكّل قلب العملية الإنتاجية وموضوع التاريخ القادم. فالمؤلفان لا يكتبان من برجٍ أكاديمي، بل من خندقٍ أيديولوجي، ويدعوان القارئ إلى الانضمام إليهما في معركة الوعي والواقع.

يُبنى البيان على منطقٍ حواري، إذ يبدأ بجملةٍ شهيرة أصبحت بمثابة مفتاحٍ تأويلي للفكر الماركسي: “تاريخ كل المجتمعات حتى الآن هو تاريخ صراع الطبقات.” هذه العبارة لا تُقدَّم كمجرد أطروحةٍ نظرية، بل كافتتاحيةٍ لحوارٍ مع القارئ، تُلزمه بإعادة النظر في كل ما يظنه بديهيًّا حول العدالة والتقدم والحرية. ماركس وإنجلز لا يفرضان رأيهما، بل يحاوران ضمير الإنسان الحديث الذي ظن أنه تحرر من الاستبداد السياسي، ليكتشف أنه لا يزال أسيرًا لاستبدادٍ اقتصادي أشد قسوة.

يقدم البيان تحليلًا بنيويًّا مبكرًا للمجتمع الصناعي، إذ يُظهر كيف أن البرجوازية، التي حطّمت الإقطاع والملكية القديمة، أنشأت في المقابل نظامًا جديدًا من التبعية قائمًا على رأس المال. هذه المفارقة المركزية — تحرير الإنسان من ربقة الإقطاع ليقع في أسر السوق — هي ما يجعل النص ذا طابعٍ جدليٍّ دائم. إنه ليس دفاعًا أعمى عن طبقة ضد أخرى، بل محاولة لفضح منطق التاريخ نفسه: أن كل ثورةٍ تحمل في أحشائها بذور نظامٍ جديدٍ لا يقلّ تسلطًا.

من هنا يتخذ البيان طابعًا عالميًّا غير مسبوق. فماركس وإنجلز يتحدثان عن “عولمة” الرأسمالية قبل قرنٍ ونصف من ظهور المصطلح، مشيرين إلى أن الأسواق الوطنية لم تعد قادرة على استيعاب الإنتاج الصناعي، وأن رأس المال يتجاوز الحدود بحثًا عن الربح. في هذا المعنى، يتحول البيان إلى نصٍّ تنبؤي، يكشف باكراً ملامح ما نعيشه اليوم من ترابطٍ اقتصادي عالمي واحتكاراتٍ عابرةٍ للدول.

لكن القيمة الفلسفية للبيان لا تكمن فقط في تشخيصه للواقع، بل في لغته التحريضية التي تمزج بين العقل والخطابة. فماركس وإنجلز يدركان أن التغيير لا يصنعه التحليل البارد وحده، بل الإيمان بضرورة الفعل. لذلك، يختم النص بنداءٍ شهيرٍ صار شعارًا عالميًّا: “يا عمّال العالم، اتحدوا!” هذا النداء ليس مجرّد دعوةٍ سياسية، بل إعلان لولادة ذاتٍ جماعيةٍ جديدة — ذاتٍ تفكر بالعالم لا بوصفه مجموع أممٍ متنافسة، بل فضاءً واحدًا للمصير الإنساني المشترك.

إن الحوار الذي يفتحه البيان مع القارئ يتجاوز زمنه التاريخي. فكلما أعاد القارئ الحديث قراءته، يجد نفسه داخل جدليةٍ متجددة بين الحرية والعدالة، بين الفرد والجماعة، بين الحلم والواقع. وحتى في زمن العولمة الرقمية والذكاء الاصطناعي، يظل السؤال الماركسي قائمًا: من يملك وسائل الإنتاج؟ وكيف يُعاد توزيع الثروة والمعرفة؟ لقد تغيّرت الأدوات، لكن البنية العميقة للصراع ظلت قائمة.

وإذا كان القرن العشرون قد شهد صعود وانهيار تجاربٍ شيوعية متعددة، فإن أثر البيان لا يُقاس بنجاح أو فشل تلك الأنظمة، بل بقدرته على إدامة النقاش حول معنى العدالة الاجتماعية. فحتى خصوم ماركس يعترفون اليوم بأن نقده للرأسمالية كان استشرافًا لظواهر مثل الاستلاب والاستهلاك المفرط وعدم المساواة الرقمية. لقد فتح البيان الباب أمام فلاسفةٍ لاحقين — من أنطونيو غرامشي إلى هربرت ماركوز، ومن سلافوي جيجيك إلى ديفيد هارفي — ليواصلوا الحوار ذاته بطرائق مختلفة، متسائلين عن أشكال جديدة من السيطرة في زمن الاقتصاد المعرفي.

إن البيان الشيوعي بهذا المعنى ليس وثيقة سياسية من الماضي، بل نصٌّ حيٌّ في تاريخ الفكر الإنساني. إنه يذكّرنا بأن الفلسفة، في لحظاتها النادرة، لا تكون تأملًا مجردًا بل فعلاً لغويًّا يحرّك التاريخ. لقد كتب ماركس وإنجلز كمن يقرعان جرسًا لا يزال صوته يتردد: أن العالم يمكن تغييره، وأن فهمه هو الخطوة الأولى نحو ذلك.

الخاتمة:
بعد أكثر من قرن ونصف، ما زال الحوار الذي بدأه ماركس وإنجلز مفتوحًا. فكل قارئٍ جديد يدخل النص ليجد نفسه مخاطَبًا بسؤالٍ واحدٍ لا يشيخ: إلى أي طبقةٍ أنتمي؟ وهل أقبل أن أكون متفرّجًا في مسرح التاريخ أم فاعلًا فيه؟ هذا هو سر خلود البيان الشيوعي؛ أنه لا يقدم أجوبة نهائية، بل يوقظ في الإنسان شهوة السؤال والثورة معًا.


0 التعليقات: