الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


إعلانات أفقية

الاثنين، نوفمبر 10، 2025

مجموعة قصصية جديدة بعنوان (حنين إلى السبعينات) بقلم: عبده حقي

 


مقدمة المجموعة القصصية (حنين إلى السبعينات)

            عندما أعود إلى أرشيفي القصصي الممتد عبر عقود من الكتابة، أشعر وكأنني أفتح نوافذ قديمة كانت مغلقة على روائح الزمن وأصواته. كل نصّ من هذه النصوص التي أضعها اليوم أمام القارئ ليس مجرد حكاية كتبتها في لحظة عابرة، بل هو جزء من

رحلة عمر، من تلك الحياة التي عشتها بين الأمكنة، بين الأزقة المغربية التي شكلت حساسيتي الأولى، وبين المدن البعيدة التي حملتني إليها أسفار الروح والواقع.

إن هذا الأرشيف الذي أقدمه عبر موقعي الإلكتروني لم يكن في البداية مشروعاً واضح الحدود، بل كان أقرب إلى نهر صغير يجمع ما تساقط في داخلي من مشاهد وذكريات، ثم يتحول مع الوقت إلى مسار سردي له ملامحه، لغته، وهويته الخاصة.

كنت دائماً أؤمن أن القصة القصيرة ليست قالباً فنياً جاهزاً، بل تجربة وجودية قبل أن تكون تجربة أسلوبية. لقد كنت أكتب لأفهم، لأتذكّر، لأُرمّم ما تصدّع في الذاكرة، ولأمنح ذاتي فرصة لمساءلة العالم.

في قصصي، لم أكن أبحث عن البطولة ولا عن الشخصيات الخارقة، بل كنت أفتّش عن البشر في هشاشتهم، في قلقهم، في اختلافهم بين الضوء والظل. ولعل القارئ سيلاحظ أن اللغة نفسها تتحول في كثير من نصوصي إلى بطل… ليست أداة للقول، بل كائناً حيّاً يرافق الشخصية ويضيّق عليها أحياناً، أو يفتح لها آفاقاً وأحلاماً. 

حين أقرأ اليوم قصصاً كتبتها قبل سنوات، مثل «يوم ككل الأيام» أو «حلم الأفق المسروق»، أشعر وكأني ألتقي ذاتي القديمة، وأنا أحمل داخلي تلك الرغبة الدائمة في فهم معنى الوجود حين يصبح غريباً، أو حين يضيّق الزمن على روحه.

لقد طبعت الذاكرة الطفولية الشيء الكثير من نصوصي. ربما لأنني أنتمي لجيل ما تزال السبعينات تسكنه بقوّة، جيل تشكّل على وقع التحولات الكبرى، وعلى ما كان يختمر يومها من أسئلة معلّقة حول الإنسان والحرية والمصير. لذلك غالباً ما يعود الزمن في نصوصي كعنصر تفاعلي لا كعنصر محايد.

فالزمن بالنسبة لي ليس مجرد سياق لطريقة السرد، بل هو فضاء يعجن الشخصية ويبدّل مصائرها، ويعيد تشكيل علاقاتها بذاتها وبالعالم.

وهناك في قصصي ميل واضح إلى المزج بين الواقعي والرمزي، بين الحكاية والتأمل، بين ما يُرى وما يُستشعر. ربما لأنني لم أفصل يوماً بين الكتابة وبين الحاجة إلى طرح الأسئلة.

كنت دائماً مسكوناً بالرغبة في تجاوز الشكل التقليدي للقصة، وفي أن تكون اللغة قادرة على حمل ثقل التأمل الداخلي، وعلى فتح أبواب غير متوقعة للقارئ.

فأنا أكتب لأنني لا أعرف طريقة أخرى لفهم ما يجري في الداخل. أكتب كي أرى.

وأحياناً أكتب كي أتخلّص مما أثقلني من تراكمات الذاكرة.

ولأنني ابن المغرب، فقد كان طبيعيّاً أن يُطلّ هذا الوطن من كل زوايا السرد، سواء عبر الدروب الشعبية حيث تتقاطع البدايات، أو عبر الجبل والصحراء. لقد كان المغرب دائماً نقطة انطلاق، ليس كمكان محدّد، بل كينبوع للصور والرواسب والروائح الأولى.

لكنني في الوقت ذاته لم أكتفِ بالسرد المحلي، لأنني أؤمن بأن القصة المغربية جزء من فضاء أكبر، وأن اللغة العربية نفسها، حين تتنفس بسلاسة، تصبح جسراً نحو العالم.

لذلك انفتحتُ، في أرشيفي القصصي، على الترجمة، وعلى استلهام نصوص عالمية، وعلى التجريب في ما أكتب وما أقرأ وما أترجم.

كنت أبحث دائماً عن اللغة التي تليق بالتجربة، وعن الشكل الذي يسمح للنص بأن يتنفس الحرية كاملة.

ولعلّ ما يسعدني أكثر هو أن القارئ يجد في هذه النصوص شيئاً من ذاته، أو من قلقه، أو من ذاكرته هو.

فالقصّة عندي ليست محاضرة، ولا بياناً فكرياً، بل هي انفعال إنساني مفتوح، ولحظة من الحياة تُروى بدقة، وبشيء من العفوية، وبكثير من الشغف.

إنني أكتب لأنني أحبُّ أن أحاور القارئ، أن أنصت إليه، أن أترك له مساحة واسعة ليشارك في بناء المعنى من جديد.

ربما لهذا السبب تبدو كثير من نصوصي مفتوحة، لا تُغلق نهاياتها، وتمتدّ أمام القارئ كأنها طريق إلى أسئلة أخرى.

وبين كل قصة وأخرى، بين كل لحظة كتابة، كنت أكتشف نفسي من جديد.

كنت أقف أمام اللغة كما يقف رسّام أمام لوحته: يريد أن يقول شيئاً لم يُقَل بعد، يريد أن يضيف للوجود لمسة، أو نبرة، أو ظلّاً.

وكلما كتبتُ نصاً جديداً كنت أشعر أنني أمرّ عبر بوّابة أخرى، وأنني أضيف حجراً صغيراً في المعمار الذي يكوّن مجموعتي القصصية كلّها.

في النهاية، هذا الأرشيف ليس مجرّد ذاكرة أدبية، بل هو مسار حياتي كما عاشته كتابتي، وكما فهمته نفسي.

إنني أقدّمه اليوم للقارئ لأنني أؤمن بأن الحكاية لا تكتمل إلا حين تُقرأ، وأن النص يموت إذا بقي في عزلته، وأن القصة لا تولد إلا حين يعبرها وعي آخر غير وعي الكاتب.

إن هذه المقدّمة ليست تعريفاً ولا إعلاناً، بل هي دعوة إلى الدخول معي في هذا العالم الذي صنعته كلمة كلمة، وصورة صورة، وحلماً بعد حلم.

دعوة إلى السير في الدروب الداخلية التي فتحتها اللغة، وإلى مرافقة تلك الشخصيات التي صنعتها اللحظة والتجربة والذاكرة.

وأن يجد كل قارئ في هذه النصوص، مهما اختلفت مشاربها، نافذة صغيرة تُطلّ به على شيء من ذاته، أو تمنحه فرصة للصمت، أو للتذكر، أو للحلم.

هذا هو أرشيفي القصصي كما أراه اليوم: رحلة متواصلة، وذاكرة مفتوحة، وتوقٌ قديم إلى أن تظل الكلمة حيّة، وإلى أن يبقى السرد قادراً على لمس جوهر الإنسان في أبسط وأعمق حالاته.

وأنا أقدّم هذا العمل، أقدّمه بشغف الكاتب، وحنين الطفل، وهدوء الحكيم، وبصدق الإنسان الذي مازال يفتّش في الحكاية عن نفسه وعن العالم.

توقيعي الكاتب المغربي عبده حقي

رابط النسخة الإلكترونية






0 التعليقات: