يشهد المشهدُ الثقافي المغربيّ خلال أسابيع الخريف ديناميةً لافتة تمتدّ من شمال المملكة إلى جنوبها، وتجمع بين المسرح والموسيقى والفنون التشكيلية والكتاب، بما يعكس تنوّع العرض الثقافي وتنامي رهانات الصناعات الإبداعية. ففي طنجة، أعلن فضاء «رياض السلطان» عن برنامجٍ حافل لشهر نونبر، يزاوج بين عروضٍ مسرحية ولقاءاتٍ أدائية تُراهن على جسد الممثل والموسيقى الحيّة، في مسعى لترسيخ الفضاء كمنصةٍ قارة للفرجات المعاصرة واستقطاب جمهورٍ جديد للفنون الأدائية. هذا النفسُ المتجدد في المدينة المتوسطيّة ينسجم مع حركةٍ أوسع تشهدها فضاءات العرض المستقلّة الساعية إلى توسيع قاعدة المتلقين ورفع جودة البرمجة.
وفي الرباط، تتجه الأنظار مجدداً إلى تظاهرتين بارزتين. الأولى هي «Visa For Music» الذي يواصل تثبيت العاصمة كملتقى مهني وفني للموسيقى الإفريقية والعربية والعالمية، عبر حفلاتٍ حيّة ولقاءات مهنية تستقبل منتجين ومديري مهرجانات ووكلاء فنانين، في ربطٍ ذكي بين الإبداع والسوق الموسيقية وحقوق الجولات والتوزيع. وقد كشفت إدارة الدورة الثانية عشرة عن ملامح برنامجها، بما في ذلك افتتاحٌ احتفالي ومسارات عروض موزّعة على فضاءات متعددة، ما يعزّز إشعاع الرباط على خريطة المهرجانات الدولية المتخصصة. أمّا التظاهرة الثانية فهي المعرض الجماعي «Yallah’ Afrika» في فيلا الفنون، ويقدّم طيفاً واسعاً من مقاربات الفن المعاصر حول الذاكرة الإفريقيّة والجسد والهجرة، ليفتح للنقّاد والجمهور معاً حواراً بصرياً مع حساسيات جديدة وفنانين صاعدين.
وفي المسرح، تستعيد تِطوان مكانتها عبر الدورة الخامسة والعشرين من «المهرجان الوطني للمسرح» التي تمتد من 14 إلى 21 نونبر. توزّعُ البرمجة بين المسابقة الرسمية والندوات وورشات التكوين، وتمنح فرصةً لتقاطع التجارب الجهوية مع تجارب مسرحٍ مؤسّسي وخاص، بما يتيح قراءةً سنويةً لراهن الخشبة المغربية، جودةً وتقنياتٍ ونصوصاً وأداءات. حضور تِطوان هنا ليس احتضاناً مكانياً وحسب، بل هو إشارةٌ إلى مساهمة المدن التاريخية في تنشيط الثقافة الوطنية وإعادة وصلها بجمهورٍ متعدّد الأجيال.
ومن مدن الفنون إلى مدن الكتاب، تستمر إنزكان في ترسيخ عادتها الثقافية من خلال المعرض الجهوي للكتاب والقراءة، حيث يتحوّل الفضاء العمومي إلى منصّةٍ للناشرين والكتّاب والهيئات الثقافية، في رهانٍ على تشجيع القراءة لدى اليافعين والعائلات وتثمين مبادرات الأندية والمكتبات المدرسية. هذا الحضور الجهوي للكتاب، الذي يتقاطَع مع أنشطة توقيع وموائد مستديرة وورشاتٍ تربوية، يكمّل صورة الثقافة كمنفعةٍ عامة لا كترفٍ ظرفي.
وفي الجنوب الشرقي، تعود أرفود لتحتضن «الملتقى الدولي للتمر بالمغرب»، وهو وإن كان حدثاً فلاحياً بالدرجة الأولى، فإنه يزدان كل سنة ببرمجة ثقافية وفنية تحتفي بتراث الواحات، من فنونٍ شعبية إلى مسابقاتٍ ومعارض للمنتجات المجالية. حضور الواحات على هذا النحو يذكّر بضرورة وصل التنمية الثقافية بالمنظومات البيئية والاقتصادية، وإبراز التمر ليس كمنتوجٍ غذائي فحسب، بل كرمزٍ لذاكرة المكان وهوية سكّانه.
ولا تغيب مراكش عن الخارطة، حيث يستعيد البحثُ في التراث العلمي والفكري المغربي واجهته عبر ندوةٍ أكاديمية حول «مجموعة اليواقيت العصرية» للمؤرخ محمد ابن الموقت المراكشي. مثل هذه اللقاءات تُنعش صلة الجامعة بالمدينة وتُذكّر بأهمية النقد الفيلولوجي والتحقيق في صيانة المتون وإعادة تقديمها للأجيال الجديدة ضمن مناهج حديثة تُراعي سؤال السياق وطرائق القراءة المعاصرة.
وفي طنجة أيضاً، يتجاور الوفاء الثقافي مع الحسّ الابتكاري في ملتقى تنظّمه جمعية «قدوة»، يجمع ختامُه حفلاً فنياً ومعرضاً تفاعلياً حول الذكاء الاصطناعي. هذا التزاوج بين الثقافة والرقمي يشي بتحوّلٍ لافت في برمجة الفعاليات نحو التجريب والتفاعل، حيث تنتقل المعارض من الطابع التوثيقي الخالص إلى فضاءاتٍ اختبارية تُشرِك الجمهور في الأسئلة التقنية والأخلاقية والجمالية التي تثيرها الموجةُ التكنولوجية الجديدة.
بهذا التراكم الأفقي للفعاليات، تبدو الثقافة المغربية في نوفمبر على موعدٍ مع جمهورٍ واسع ومتنوّع: موسيقى تحتفي بجذورها الإفريقية والمتوسطية وتُقيم جسوراً مهنية؛ مسرحٌ يختبر لغته ومكانته في المدن التاريخية؛ معارض تشكيلية تؤثّث النقاش حول الذاكرة والهوية؛ معارض كتابٍ تُعلي شأن القراءة؛ وأحداثٌ مجالية تربط الثقافة بالبيئة والاقتصاد. إنها جغرافيا ثقافية حيّة تتوزّع عبر الرباط وتطوان وطنجة ومراكش وإنزكان وأرفود، وتُرسّخ صورة المملكة باعتبارها ورشةً مفتوحة للإبداع والتلاقي وحوار الفنون.







0 التعليقات:
إرسال تعليق