الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


إعلانات أفقية

الخميس، نوفمبر 06، 2025

الجزائر تحت ضغط الجغرافيا والسياسة: عبده حقي

 


تعيش الدبلوماسية الجزائرية اليوم إحدى أكثر مراحلها حرجا منذ عقود. فالمشهد الإقليمي يتغيّر بسرعة، والجزائر تجد نفسها محاطة بالأزمات، غير قادرة على توظيف علاقاتها أو بناء شبكة توازنات صلبة تحمي مصالحها. هذا الوضع ليس مجرد انطباع عابر، بل خلاصة تحليل لعدد من الخبراء الذين تابعوا تحولات شمال إفريقيا خلال السنوات الأخيرة.

في الجنوب، يتصاعد خطر الجماعات المتطرفة في مالي، ومعه احتمال قيام كيان إماراتي متشدد ملاصق للحدود الجزائرية. في ليبيا، تنزلق الأمور باستمرار نحو تجاذبات عسكرية وسياسية تتعارض مع الرؤية الجزائرية، خصوصا في ظل صعود معسكر خليفة حفتر المدعوم من قوى عربية وأوروبية مؤثرة. أما مع النيجر وبوركينا فاسو، فالعلاقات متذبذبة، ومع موريتانيا تظل الأمور معلّقة بين التقارب والحذر. وحدها تونس تعيش "شهر عسل" سياسي مع الجزائر، نتيجة تبعية اقتصادية شبه كاملة للغاز الجزائري، ما يجعل العلاقة أقرب إلى الارتباط منها إلى التحالف الندي.

تراكم الأزمات مع فرنسا، إسبانيا، المغرب، دول الساحل، والإمارات العربية المتحدة وضع الجزائر أمام لحظة تقييم قاسية. وفي هذا السياق، نشرت مجلة "لوبريس" الفرنسية تحليلا لخبير مركز International Crisis Group ريكاردو فابْياني، أحد الأسماء الأكثر اطلاعاً على ملفات شمال إفريقيا. والمفارقة أن هذا المركز لطالما اعتُبر من قبل كثيرين في المغرب أقرب إلى أطروحات الجزائر، كما أن مسؤولين جزائريين سابقين شاركوا في أعماله.

لكن فابياني، في تحليله الأخير، لم يجامل. فقد لخّص الأزمة الجزائرية بجملة واحدة:
"الجزائر ترفض بناء تحالفات حقيقية، ولذلك لا تجد من يقف معها عندما تحتاج الدعم."

تجلّى هذا الضعف بشكل صارخ خلال التصويت الأخير في مجلس الأمن حول الصحراء المغربية. فبينما انتقلت القرارات الأممية تدريجيا نحو دعم مقترح الحكم الذاتي المغربي، لم يجد النظام الجزائري دولة واحدة تستخدم الفيتو أو حتى تعارض القرار بشكل حقيقي. حتى الصين وروسيا، حليفاه التقليديان، امتنعتا عن مساعدته. بل وصف كثير من المحللين ذلك اليوم بأنه "ليلة سوداء" للدبلوماسية الجزائرية، خصوصا بعدما أصدر البرلمان الفرنسي قرارا يراجع امتيازات الجالية الجزائرية المرتبطة باتفاق 1968.

يُجمع المراقبون على أن الجزائر في عهد الرئيس تبون فقدت القدرة على صناعة الحلفاء. فبعدما كانت تربطها علاقات متينة سابقا مع روسيا، والصين، وفرنسا، والولايات المتحدة، وبلدان الخليج، وجيران الساحل، تحوّلت السياسة الحالية إلى مسار صدامي مع الجميع تقريبا.

أقصت الصين لصالح تركيا، مع أن أنقرة ليست عضوا دائما في مجلس الأمن ولا تتمتع بثقل استثماري مماثل لبكين. تدهورت العلاقات مع الإمارات والسعودية رغم نجاحهما في المحافظة على توازن تاريخي في علاقاتهما بين الرباط والجزائر. أما قطر، فهي شريك اقتصادي لا أكثر، وليست حليفا بالمعنى الاستراتيجي.
وإذا كان النظام يتحدث باستمرار عن "أعداء الجزائر"، فإنه نادرا ما يذكر أي "أصدقاء". لأنه ببساطة لا يوجد حلفاء فعليون.

حتى الدول الصغيرة التي قدمت لها الجزائر مساعدات اقتصادية وسياسية خلال السنوات الماضية لم تصوت لصالحها. وهو ما اعتُبر في الداخل صدمة مهينة، إذ لم يحصد النظام سوى "صفر دعم" في معركة كان يعتبرها مصيرية.

تكمن المشكلة الجوهرية، كما يصفها فابياني، في أن القيادة الجزائرية لا تزال تعمل ببرامج الستينيات والسبعينيات: خطاب عدم الانحياز، المواجهة الإيديولوجية، واعتبار قضية الصحراء "قضية وجودية". في حين أن الأنظمة السابقة، رغم خلافاتها، كانت تتعامل مع الملف باعتباره أداة نفوذ وليست مسألة مصير.

اليوم، ومع غياب رؤية دولية حديثة، وتراجع القدرة على بناء الثقة مع القوى الكبرى، أصبحت الجزائر محصورة داخل دائرة عزلة ذاتية، تعتمد على شركاء ظرفيين لا يملكون القدرة ولا الرغبة في الدفاع عنها عندما تستدعي الحاجة.

لا يحتاج الوضع إلى مبالغة كي يبدو واضحا:

الجزائر تعيش أزمة تحالفات حقيقية.
لا تمتلك أصدقاء استراتيجيين، ولا تحالفات راسخة، ولا رؤية خارجية متماسكة.
وتستمر في إدارة علاقاتها كما لو أن العالم ما يزال يعيش في منطق المعسكرات القديمة، بينما القوى الإقليمية والدولية أعادت رسم خرائطها وفق مصالح براغماتية أكثر تعقيدا وحداثة.

إن استمرار هذا النهج، كما يحذّر الخبراء، سيعمّق عزلة الجزائر، ويقوّض قدرتها على حماية مصالحها في منطقة تتغير بسرعة مخيفة.


0 التعليقات: