الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


إعلانات أفقية

الخميس، نوفمبر 06، 2025

رسالة من سجن برمنغهام: حوار الضمير مع أمة تتألم: ترجمة عبده حقي


 المقدمة: في ربيع عام 1963، كتب القس الأمريكي مارتن لوثر كينغ الابن واحدة من أهم الوثائق الأخلاقية والسياسية في تاريخ النضال الإنساني، وهي "رسالة من سجن برمنغهام". لم تكن الرسالة مجرّد ردّ على منتقديه من رجال الدين الذين اتهموه بالتطرّف وخرق القانون، بل كانت حواراً عميقاً بين الضمير الإنساني والعدالة المؤجّلة، بين الإيمان بالفعل والمساومة على المبادئ. كتب كينغ نصّه في الزنزانة على هوامش الصحف وأوراق متفرقة، لكنه أطلق من خلالها نداءً يتجاوز حدود المكان والزمان، مؤكّداً أنّ العدالة لا تُمنح بل تُنتزع، وأن الصمت أمام الظلم نوع من المشاركة فيه.

المقال التحليلي:

في قلب الصراع الأمريكي من أجل الحقوق المدنية، كانت برمنغهام رمزاً للعنف العنصري وللمقاومة السلمية معاً. حين اعتُقل كينغ بسبب قيادته لمسيرات احتجاجية، لم يختَر أن يدافع عن نفسه ببيان سياسي تقليدي، بل كتب نصاً أخلاقياً أقرب إلى الوصيّة الفكرية منه إلى الردّ الصحفي. جعل من رسالته حواراً مباشراً مع الأمة الأمريكية، ومن ذاته المتألمة صوتاً للضمير الجمعي.

منذ الجملة الأولى، يضع كينغ القارئ أمام مفارقة أساسية: كيف يمكن أن يُتَّهم من يدعو إلى العدالة بأنه مخرّب للنظام؟ يجيب قائلاً: "الظلم في أي مكان تهديد للعدل في كل مكان". هذه العبارة المحورية تختصر فلسفة كينغ في التغيير؛ فالعدالة ليست مسألة جغرافية أو قانونية، بل شبكة أخلاقية تربط مصير البشر بعضهم ببعض. وهنا، يتحوّل السجن إلى مختبر أخلاقي يُعيد فيه كينغ تعريف معنى المواطنة والمقاومة.

في رسالته، يوجّه كينغ نقداً صارماً إلى الاعتدال الأبيض، أي أولئك الذين يزعمون تأييد العدالة لكنهم يطالبون السود بالانتظار "حتى يحين الوقت المناسب". يراهم أخطر من المتطرفين العنصريين، لأنهم يغطّون ظلم النظام بلغة المصلحة والتدرّج. يقول إن "التأجيل الدائم للعدالة هو إنكارٌ لها"، وهي جملة صارت مرجعاً فلسفياً في أدبيات حقوق الإنسان. هذه الرؤية تذكّرنا بأفكار حنة أرندت عن "تفاهة الشر"، حيث يُمارَس الظلم أحياناً باسم النظام والاعتدال، لا بالكراهية المعلَنة.

كما يرفض كينغ منطق الطاعة العمياء للقانون، مميزاً بين القانون العادل الذي ينسجم مع القيم الإلهية والإنسانية، والقانون الجائر الذي يُستخدم لإدامة القهر. بهذا التمييز الأخلاقي، يضع كينغ أساساً فلسفياً لعصيانٍ مدني واعٍ، لا فوضوي، يقوم على المسؤولية الأخلاقية لا على الفوضى السياسية. هذا المفهوم تأثر بعمق بفكر غاندي الذي ألهمه طريق المقاومة السلمية، لكنه في سياق كينغ أصبح أيضاً خطاباً مسيحياً يؤمن بأن الحب قوة سياسية قادرة على هزّ الإمبراطوريات.

لغة الرسالة مزيج من البلاغة الإنجيلية والمنطق الفلسفي، فهي تخاطب العقل والضمير معاً. يستخدم كينغ أسلوب المقابلة بين النور والظلام، الصبر والغضب، السجن والحرية، ليجعل من النص نفسه فعلاً تحررياً. يمكن القول إنّ الرسالة ليست دفاعاً عن حركة حقوقية فحسب، بل عن معنى الإنسان في عالم غير عادل. ولهذا تجاوزت حدود أمريكا لتصبح نصاً عالمياً يدرَّس في الجامعات بوصفه مثالاً على الخطاب الأخلاقي المقاوم.

من الناحية السياسية، جاءت الرسالة في لحظة تاريخية حاسمة. فقد كانت الولايات المتحدة تعيش انقساماً عرقياً حاداً، وكان الإعلام الرسمي يشيطن النضال السلمي باعتباره تهديداً للأمن. بهذا المعنى، شكّلت رسالة كينغ إعادة صياغة للخطاب الوطني: لم تعد الأمة تُقاس بقوة قوانينها، بل بقدرتها على الاعتراف بإنسانية مواطنيها السود. وهنا يتجلّى البعد الحواري للنص؛ فهو يخاطب خصومه لا ليقنعهم فقط، بل ليوقظ فيهم ضميراً غافلاً.

يتضمن النص أيضاً بعداً لاهوتياً عميقاً. فكينغ، كقسٍّ معمداني، يرى في الإيمان المسيحي التزاماً بالفعل لا بالانتظار. يذكّرنا بمبدأ القديس أوغسطين القائل: "القانون غير العادل ليس قانوناً على الإطلاق". لكنه يضيف بعداً زمنياً جديداً: أن السكوت أمام الظلم خطيئة تاريخية، لا مجرد ضعف شخصي. بهذا المعنى، تتحوّل الرسالة إلى لاهوتٍ للحرية يربط الأرض بالسماء، والسياسة بالأخلاق.

ما يجعل "رسالة من سجن برمنغهام" نصاً خالداً هو قدرتها على الجمع بين التوتر الواقعي والأمل اليوتوبي. فهي ليست فقط وثيقة احتجاج، بل أيضاً إعلان إيمان بأن التاريخ يمكن أن يُصلَح. في نهايتها، لا يعبّر كينغ عن غضب، بل عن رجاءٍ إنساني بأن العدالة ستنتصر مهما طال الطريق. وهذا الإيمان هو ما ألهم لاحقاً حركات التحرر في إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية.

على الصعيد الأدبي، يمكن قراءة الرسالة كنصٍّ من أدب السجون، لكنها تختلف عن التجارب الأخرى مثل "الاعترافات" لتولستوي أو "دفاتر السجن" لغرامشي، لأن كينغ لا يكتب من أجل ذاته بل من أجل الآخر. إنه يوجّه رسالته إلى مجتمعٍ يعيش في حالة إنكار جماعي، داعياً إياه إلى التوبة المدنية. هذا البعد الجماعي جعلها واحدة من أكثر الرسائل تأثيراً في القرن العشرين، إذ جمعت بين بلاغة الأنبياء ومنطق الفلاسفة.

في النهاية، تظلّ رسالة كينغ شهادة على أن الضمير يمكن أن ينتصر على السجن، والكلمة على العصا، والإيمان على الخوف. لقد حوّل الكاتب زنزانته إلى منبر، والقيود إلى رموزٍ للحرية. بعد أكثر من ستين عاماً، ما زالت صرخته الأخلاقية تتردّد في كل مكان يُقمع فيه الإنسان باسم القانون أو النظام.

خاتمة موجزة:
"رسالة من سجن برمنغهام" ليست وثيقة من الماضي، بل نصٌّ حيّ يذكّرنا بأن الحرية تبدأ من لحظة الرفض الأخلاقي للظلم. في كل عصرٍ يُعتقل فيه الحلم باسم الواقعية، يطلّ صوت مارتن لوثر كينغ ليقول: العدل المتأخر ظلم مستمر.


0 التعليقات: