يُعَدُّ الفنُّ أحدَ أعمقِ التجلّياتِ الّتي تُعبِّرُ عن جوهرِ الإنسانِ وفرادتِه في هذا الوجود. فبينَ ضرباتِ الريشةِ على القماشِ، واهتزازاتِ النّغمِ في الوترِ، وانعطافاتِ الجسدِ في الرّقصِ، ينبضُ قلبُ العاطفةِ الإنسانيّةِ بألوانٍ لا تُحصَى. وليسَ الفنُّ مجرّدَ وسيلةٍ للزينةِ أو التسليةِ، بل هوَ قبلَ كلِّ شيءٍ لغةُ الانفعالِ والتجربةِ الوجدانيّةِ، الّتي تُحوِّلُ المشاعرَ من حالةٍ فرديّةٍ غامضةٍ إلى خطابٍ كونيٍّ مشتركٍ يربطُ بين البشرِ عبرَ الزمنِ والمكانِ.
الفنُّ كمرآةٍ للعاطفةِ الإنسانيَّةِ
يقول الفيلسوفُ الألمانيُّ "هيغل" إنَّ الفنَّ هو "مظهرُ الفكرةِ في صورةٍ حسّيّةٍ"، أي إنَّه الجسرُ الذي يربطُ بين الفكرةِ والعاطفةِ. فكلُّ عملٍ فنّيٍّ، مهما تنوّعتْ وسائطُهُ، يحملُ في أعماقِهِ تجربةً شعوريّةً أصيلةً، سواءٌ كانتِ الفرحَ بالوجودِ أو الحزنَ عليه، الإيمانَ أو الشكَّ، الحبَّ أو الغضبَ. لذلك، فإنَّ المتلقّي حينَ يُواجهُ لوحةً لِـ"فان غوغ"، أو يسمعُ سيمفونيّةً لِـ"بيتهوفن"، لا يرى فقط خطوطًا وألوانًا أو يسمعُ أنغامًا مجرّدةً، بل يعيشُ انفعالًا إنسانيًّا متجدّدًا يتجاوزُ حدودَ اللغةِ والعقلِ إلى منطقةِ الإحساسِ الصافي.
العاطفةُ أصلُ الإبداعِ وشرارتُهُ الأولى
منذُ فجرِ التاريخِ، كانت العاطفةُ هي النّواةُ الأولى للعملِ الفنّي. فالإنسانُ القديمُ حينَ رسمَ على جدرانِ الكهوفِ مشاهدَ الصّيدِ والنّارِ والنجومِ، لم يفعل ذلكَ بدافعٍ نَفعيٍّ، بل بدافعِ الدّهشةِ والرهبةِ والرغبةِ في تخليدِ أثرِ الحياةِ الّتي تسكنُهُ. إنَّ الخوفَ والأملَ والحبَّ والحزنَ كانت دائمًا محرّكاتِ الإبداعِ الكبرى، كما يؤكّدُ علمُ النفسِ الجماليُّ أنّ الانفعالَ هو المثيرُ الأساسيُّ في عمليّةِ التلقّي والإنتاجِ الفنّيّ معًا.
فالفنّانُ لا يُبدعُ إلّا إذا تَفجّرتْ في داخلهِ طاقةٌ شعوريّةٌ هائلةٌ تبحثُ عن مَنفذٍ للتعبيرِ. وحينَ تتحوّلُ هذه الطاقةُ إلى شكلٍ، يتجلّى الفنُّ بوصفهِ تحويلًا جماليًّا للانفعالِ، أي أنَّ العاطفةَ تتحوّلُ إلى بنيةٍ منسّقةٍ تخضعُ لقوانينِ الإيقاعِ والتناغمِ. وهكذا يصبحُ الفنُّ تهذيبًا للعاطفةِ دونَ خنقِها، وإعلاءً لها دونَ انحدارٍ إلى الفوضى.
الفنُّ بوصفهِ علاجًا للعاطفةِ: من التَّطهيرِ إلى التَّأمُّلِ
تُحدّثُنا الفلسفةُ الإغريقيّةُ القديمةُ، ولا سيّما عندَ أرسطو، عن مفهومِ "الكاثارسيس" أي التّطهيرِ، الذي يمارسهُ الفنُّ في نفسِ المتلقّي. فالمأساةُ التّراجيديّةُ، على سبيلِ المثال، تُثيرُ فينا مشاعرَ الخوفِ والرّحمةِ لتُطهّرنا منها في النهايةِ عبرَ التّأمّلِ والتّفريغِ الوجدانيّ. وهذا المفهومُ ما زالَ يُفسّرُ قدرةَ الفنِّ على ملامسةِ الجراحِ الإنسانيّةِ دونَ أن يُعمّقها، بل ليُعيدَ ترتيبَها داخلَنا بصورةٍ جديدةٍ تُساعدُ على التّوازنِ النّفسيِّ والرّوحِيّ.
وفي الفنونِ الحديثةِ، لا يزالُ هذا البُعدُ العلاجيُّ قائمًا وإنْ اتّخذَ أشكالًا جديدةً؛ فالفنُّ التّجريديُّ، مثلًا، لا يعبّرُ عن عاطفةٍ محدّدةٍ، بل يفتحُ أفقًا تأمّليًّا يُحرّرُ المشاعرَ من قيدِ المعنى المباشرِ. أمّا في الأدبِ والرّوايةِ والشّعرِ، فإنَّ اللّغةَ تُصبحُ أداةً لتطهيرِ الذّاتِ عبرَ الاعترافِ والبوحِ والخيالِ. وهكذا يغدو الفنُّ، في عمقِهِ، ممارسةً وجدانيّةً للشفاءِ، لا بالهروبِ من العاطفةِ بل بالولوجِ في جوهرِها.
بينَ الصِّدقِ الوجدانيِّ والتَّقنيةِ الجماليّةِ
قد يظنُّ البعضُ أنَّ الفنَّ يقومُ على العاطفةِ وحدَها، لكنَّ التّجربةَ تُثبتُ أنَّ الإبداعَ لا يكتملُ إلا بتفاعلِ العاطفةِ معَ التّقنيةِ والعقلِ الجماليّ. فالعاطفةُ المجرّدةُ تُنتجُ الانفعالَ، لا الفنَّ. أمّا حينَ تُهذَّبُ بالوعيِ وتُنظَّمُ بالإيقاعِ، فإنَّها تُصبحُ جمالًا خالدًا. لقد قالَ "تولستوي" إنَّ الفنَّ هو نقلُ الشّعورِ من إنسانٍ إلى آخرَ بطريقةٍ واعيةٍ ومقصودةٍ، وهذهِ الوعيُ هو الّذي يُميّزُ العملَ الفنّيَّ عن الصّرخةِ الغريزيّةِ أو النّحيبِ العابرِ.
من هنا نُدركُ أنَّ العبقريّةَ الفنّيّةَ لا تكمنُ في شدّةِ الانفعالِ فحسب، بل في القدرةِ على صوغِ هذا الانفعالِ في شكلٍ متوازنٍ يجمعُ بينَ الصّدقِ والاتّزانِ، بينَ النّارِ والضّوءِ. ولعلَّ هذا ما يجعلُ قصيدةً بسيطةً تُحرّكُ القلبَ أكثرَ من لوحةٍ باهظةِ التّقنيةِ بلا إحساسٍ.
الفنُّ والعاطفةُ في ضوءِ علمِ النَّفسِ الحديثِ
تكشفُ الدّراساتُ العصبيّةُ والنّفسيّةُ المعاصرةُ أنّ الفنَّ يُنشّطُ في الدّماغِ مناطقَ خاصّةً بالعاطفةِ والتّعاطفِ. فعندما يُشاهدُ الإنسانُ مشهدًا دراميًّا أو يستمعُ إلى قطعةٍ موسيقيّةٍ حزينةٍ، تنشطُ لديهِ ذاتُ المراكزِ العصبيّةِ التي تنشطُ أثناءَ تجربةِ المشاعرِ الحقيقيّةِ. وهذا ما يُفسّرُ التّعاطفَ الفنّيَّ، أي قدرتَنا على الشّعورِ بما يشعرُ به الآخرُ دونَ أن نكونَ في موقفِه الواقعيّ. إنَّ الفنَّ يُعيدُ تدريبَ وجدانِنا على الإحساسِ بالآخرِ، فيصبحُ وسيلةً تربويّةً وأخلاقيّةً أيضًا، تُنمّي فينا الإنسانيّةَ والخيالَ الأخلاقيَّ كما قالَ "مارثا نوسباوم".
الفنُّ والعاطفةُ في زمنِ الآلةِ والرَّقمنةِ
في عصرِ الذّكاءِ الاصطناعيِّ والتّقنيّاتِ البصريّةِ المتقدّمةِ، يُطرحُ سؤالٌ جديدٌ: هل تستطيعُ الآلةُ أن تُنتجَ فنًّا يحملُ عاطفةً حقيقيّةً؟ إنَّ خوارزميّاتِ التّوليدِ الفنّيِّ اليومَ قادرةٌ على محاكاةِ الأشكالِ والألوانِ والأصواتِ، لكنّها لا تختبرُ الانفعالَ الّذي يُنتجُ المعنى. العاطفةُ ليستْ بياناتٍ، بل تجربةٌ معاشةٌ. ولذلك، فإنَّ الفنَّ الإنسانيَّ سيظلُّ هو الحاملَ الأصيلَ للانفعالِ، مهما بلغتِ الآلةُ من ذكاءٍ أو إتقانٍ في التّقليدِ.
ومعَ ذلكَ، يمكنُ للفنِّ الرّقميِّ أن يفتحَ مجالاتٍ جديدةً لتجسيدِ العاطفةِ من خلالِ التّفاعلِ الحسّيِّ والمشهدِ المتعدّدِ الوسائطِ، بحيثُ لا يكونُ المتلقّي مجرّدَ مشاهدٍ، بل مشاركًا في خلقِ الانفعالِ الجماليّ. وهنا يتّسعُ مفهومُ الفنِّ ليشملَ الخبرةَ الشعوريّةَ التفاعليّةَ التي تُعيدُ تعريفَ العلاقةِ بين الإنسانِ والعاطفةِ والجمالِ.
خاتمةٌ: العاطفةُ جوهرُ الفنِّ وبُرهانُ إنسانيّتِنا
في النّهايةِ، لا يمكنُ فصلُ الفنِّ عن العاطفةِ كما لا يمكنُ فصلُ النّبضِ عن القلبِ. فالعاطفةُ هيَ الأصلُ، والفنُّ هو الصّيغةُ الجماليّةُ لهذا الأصلِ. وإذا كانتِ الحضاراتُ تُقاسُ بمدى تقدّمِها المادّيّ، فإنّ قيمتَها الإنسانيّةَ تُقاسُ بعمقِ فنونِها وبصدقِ انفعالاتِها. فالفنُّ هو الوثيقةُ الوجدانيّةُ للأممِ، والسّجلُّ الحيُّ لمشاعرِها عبرَ العصورِ.
إنَّ الفنَّ يُعلّمنا كيفَ نحبُّ، وكيفَ نحزنُ، وكيفَ نغفرُ. إنّهُ مدرسةُ العاطفةِ الكبرى، الّتي تُحوِّلُ الألمَ إلى لحنٍ، والحنينَ إلى لونٍ، واليأسَ إلى قصيدةٍ. وهكذا يظلُّ الفنُّ هو أرقى تجلّياتِ العاطفةِ الإنسانيّةِ، وأجملَ لغاتِها على الإطلاقِ.








0 التعليقات:
إرسال تعليق