يا زَمَنَ العَوْدَةِ، أَفْتَحُ كَفِّي لِلرِّيحِ كَمَنْ يُلَقِّنُ ذَاكِرَتَهُ الدُّعَاءَ، أَسِيرُ في مَمَرّاتِ الرَّمْلِ كَمَنْ يَسْتَعِيدُ خُطَاهُ الأُولَى، وَأَسْمَعُ صَوْتَ أَبِي يَنْهَضُ مِنْ جَانِبِ القَمَرِ يُنَادِينِي: "ارْجِعْ، فَالمَاءُ يَنْتَظِرُكَ فِي العَيْنِ القَدِيمَةِ". أَقُولُ: عُدْتُ، لَكِنَّنِي لَمْ أَغِبْ، كُنْتُ فِي نَفْسِ النَّخْلَةِ أُخْفِي ضَوْءَ النَّخِيلِ.
يَا وَاحَتِي، يَا مَهْدَ سُؤَالِي الأَوَّلِ، كَيْفَ كَبِرْتِ بِي دُونَ أَنْ أَرَاكِ؟ كُنْتُ أَحْسَبُ الزَّمَنَ نَافِذَةً نُطِلُّ مِنْهَا عَلَى الأَمْسِ، فَإِذَا بِهِ يَفْتَحُ أَبْوَابَهُ عَلَى الغَدِ، وَيُرِينِي وَجْهِي فِي مِرْآةِ الرِّمَالِ. كُلُّ حَبَّةِ تُرَابٍ هُنَا لَهَا اسْمِي، وَكُلُّ غَيْمَةٍ تَمُرُّ تَتَذَكَّرُ نَفَسِي.
فِي زَمَنِ العَوْدَةِ، أَضَعُ نَعْلِي فَوْقَ خُطُوطِ الأُسْيَادِ، لا لأُقَلِّدَهُمْ، بَلْ لِأَفْهَمَ كَيْفَ كَانُوا يُصَلُّونَ وَهُمْ يَسْقُونَ الأَرْضَ بِالدِّمَاءِ وَالْعِرْقِ وَالأَغَانِي. أَسِيرُ وَأَنَا أَتَكَلَّمُ بِلِسَانِ مَنْ سَبَقُونِي، وَأَسْمَعُ نَفْسِي فِي أَصْوَاتِهِمْ.
قُلْتُ: يَا أَرْضِي، أَنَا لا أَعُودُ إِلَيْكِ، بَلْ أَنْتِ الَّتِي تَعُودِينَ فِيَّ، كَمَا يَعُودُ النَّبْضُ إِلَى قَلْبٍ غَفَلَ عَنْهُ الزَّمَنُ. أَغْرِسُ فِي التُّرَابِ كَلِمَةً، فَتَنْبُتُ ذِكْرَى. أَضَعُ كَفِّي عَلَى الْعَتَبَةِ، فَتَنْفَتِحُ بَابَاتُ المَعْنَى كَمَا تَنْفَتِحُ نَخْلَةٌ لِلضِّيَاءِ.
كُلُّ مَا غَابَ يَحْضُرُ، وَكُلُّ مَا حَضَرَ يَتَحَوَّلُ إِلَى أُغْنِيَةٍ فِي الصَّدَى. هَذَا زَمَنٌ لا يُقَاسُ بِالسَّاعَةِ، بَلْ بِعُمْرِ الحَنِينِ. أَجْلِسُ تَحْتَ سَقْفِ الغَيْمِ وَأَقُولُ: "لَيْسَ العَوْدُ نِهَايَةً، بَلْ مَبْدَأُ النُّورِ الَّذِي ضَلَّ طَرِيقَهُ فِيَّ".
يَا وَاحَةَ الأُسْيَادِ، أَنْتِ لَسْتِ مَكَاناً، بَلْ مَعْنًى، وَأَنَا لَسْتُ زَائِراً، بَلْ صَدَى أَوْلِئِكَ الَّذِينَ مَشَوْا فِيَّ. مَا زِلْتُ أَسْتَشِعِرُ رَائِحَةَ خُطَاهُمْ فِي عُرُوقِي، كَأَنَّهُمْ لَمْ يَذْهَبُوا، بَلْ تَحَوَّلُوا إِلَى نَبْضٍ جَدِيدٍ فِي دَمِي.
أُرَاقِبُ سُحُبَ الصَّبَاحِ وَهِيَ تُسَافِرُ نَحْوَ مَجْدِ الأُسْيَادِ، فَأَتَبَسَّمُ كَمَنْ يَفْهَمُ الإِشَارَةَ: كُلُّ سَمَاءٍ تَحْمِلُ جِيناً مِنْ ذَاكِرَتِنَا. وَكُلُّ نَجْمَةٍ تُضِيءُ كَأَنَّهَا عَيْنُ جَدِّي الَّذِي كَانَ يَسْقِي لَيْلَ الْقَوَافِي مِنْ نُورِ قَلْبِهِ.
فِي زَمَنِ العَوْدَةِ، أَكْتُبُ اسْمِي عَلَى جِدَارِ النَّهْرِ، فَيَقْرَؤُهُ السَّمَكُ، وَيَعْرِفُ أَنَّنِي لَمْ أُغَادِرْ. أَسْقِي نَخْلَتِي بِنَبْضِي، فَتَكْبُرُ مِثْلَ قَصِيدَةٍ كَانَتْ نَائِمَةً فِي حُلْمِ مَاءٍ.
هَكَذَا أَسِيرُ، وَفِي كُلِّ خُطْوَةٍ أَسْمَعُ وَجْهَ الزَّمَنِ يُحَدِّثُنِي: "كُنْتَ هُنَا قَبْلَ الوَقْتِ، وَسَتَكُونُ بَعْدَهُ". فَأَضَعُ يَدِي عَلَى قَلْبِي، وَأَقُولُ: "هُنَا وَاحَتِي، وَهُنَا يَبْدَأُ البَحْرُ مِنْ دَمْعَةِ سَيِّدٍ قَدِيمٍ".
هُوَ زَمَنُ العَوْدَةِ إِذَنْ، لَا نَحْنُ نَعُودُ، بَلْ الحُلْمُ هُوَ الَّذِي يَسْتَيْقِظُ فِينَا، وَيَسِيرُ عَلَى أَصَابِعِ النُّورِ نَحْوَ نَخْلَةٍ بَعِيدَةٍ، يُكْتَبُ عَلَيْهَا: "هُنَا ابْتَدَأَتِ الحِكْمَةُ، وَهُنَا عَادَ الْإِنْسَانُ إِلَى ظِلِّهِ".
تَوْقِيعٌ: عَبْدُهُ حَقِي








0 التعليقات:
إرسال تعليق