الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


إعلانات أفقية

الجمعة، أكتوبر 17، 2025

من كل قارة قصة (1) الرجل الذي لم يضحك أبدا ؟ من القصص العربي : ترجمة عبده حقي

 كان هناك رجل من أولئك الذين يملكون بيوتاً وثروات، وكان يملك المال والخدم والعبيد وغيرها من الممتلكات. فلما رحل عن الدنيا ليرحم اللهُ روحه (تعالى اسمه)، ترك ولدًا صغيرًا. وعندما كبُر الابن، شرع في الأكل والشرب، واستماع الموسيقى والأغاني، واصبح كريمًا في العطاء، فأنفق ما تركه له والده من ثروة حتى نفدت كلّها.

ثم لجأ إلى بيع العبيد الذكور والعبيد الإناث وغيرها من الممتلكات، وأنفق كل ما كان يملك من ثروة والديّه، حتى صار فقيرًا، فصار يعمل مع العمّال في الحقول. وظل على هذه الحال لسنوات. وفي يومٍ من الأيام، بينما كان جالسًا تحت جدارٍ، منتظرًا من يوظفه، إذ قد اقترب إليه رجل حسن المنظر والهيئة وسلّم عليه. فقال الشاب له: «يا عمّ، هل قد عرفتني من قبل؟»

فرد الرجل: «ما عرفتك يا بني إطلاقًا، لكني أرى أثار الثراء عليك، رغم حالك هذه.» فقال له الشاب: «يا عمّ، ما كتب الله وقدَّر قد وقع. فهل لك، يا عمّ ذو الهيئة الحسنة، عمل تريد أن توظفني فيه؟» قال الرجل: «يا بني، أريدك أن تعمل عندي عملاً سهلًا.» فسأله الشاب: «وما هو يا عمّ؟» فأجابه: «عندي عشرة شيوخ في مَسكنٍ واحد، وليس معنا مَن يقضي حوائجنا. تأخذ لنا من طعام وكساء ما يليق، وتخدمنا، وتأخذ نصيبك من النفع والمال، وربما يُعيد الله إليك ثراءك بسببي.» فقال له الشاب: «سمعت وأطع.»

ثم قال الشيخ له: «لي شرط لك.» فسأله الشاب: «وما هو يا عمّ؟» قال له: «يا بني، أن تحتفظ بسرّ ما ستراه معنا، وأن إذا رأيتنا نبكي، فلا تسألنا عن سبب بكائنا.» فأجابه الشاب: «حسناً يا عمّ.»

فقال له الشيخ: «يا بني، تعال معنا، متوكّلاً على بركة الله.» فتبع الشيخ الشاب حتى أوصله إلى الحمام، وبعد أن اغتسل قيل له: أُلبس ثوبًا من الكتان الجميل، ثم اصطحبه إلى المسكن حيث شركاؤه. فلما دخل الشاب، وجد مسكنًا عظيمًا، بزخارف عالية، وغرفًا متقابلة، وقاعات بينها نوافير مياه، وتغني الطيور حولها، ونوافذ تطلُّ من كل جهة على بستانٍ جميل داخل المسكن.

أدخله الشيخ إلى إحدى الغرف، فوجدها مزينة بالرخام الملون، وسقفًا من السماء الزرقاء المذهّبة، وبُسطت بالسجاجيد الحريرية؛ ووجد فيها عشرة شيوخ جالسين متقابلين، يلبسون ثياب الحداد، ويذرفون الدموع ويبكون. فتعجّب الشاب من حالهم، وكاد أن يسأل الشيخ الذي أوصله، لكنه تذكّر شرطه، فكمّل صمته.

ثم سلَّم إليه الشيخ صندوقًا يحتوي على ثلاثين ألف قطعة ذهب، وقال له: «يا بني، أنفق علينا منه، وعليك، بما هو عادل، وكن أمينًا فيما وكلّتك.» فأجاب الشاب: «سأفعل، سمعًا وطاعة.» فبدأ ينفق عليهم لأيام وليالٍ، ثم مات أحدهم، فغسّلوه وكفّناه ودفنوه في بستانٍ خلف المسكن. وما زال الموت يلفّ الشيوخ واحدًا تلو الآخر، حتى لم يبقَ إلا الشيخ الذي وكلّ إليه الشاب.

فحين مرض الشيخ، وخشِي الشاب أن ينهيه الموت، خاطبه بعناية: «يا بني، لقد خدمتنا دون أن تفشل ساعةً من اثنتي عشرة سنة، وكنت مخلصًا في خدمتك حسب قدرتك.» فأجابه الشيخ: «نعم يا بني، لقد خدمتنا، والشيوخ قد ذهبوا إلى الله، ولا بد أن يموت الإنسان.»

فالشاف شاب: «يا سيدي، أنت في خطر، وأرجو منك أن تخبرني ما سبب بكائكم وولولكم المستمر؟» فردّ الشيخ: «يا بني، ليس لك شأن بذلك، ولا تطلب مني ما لا أستطيع. إذا أردت أن تكون في مأمن ممّا نحن فيه، فلا تفتح ذلك الباب.» وأشار إلى باب وقال له: «وإن أردت أن تعرف ما بيَنّا فافتحه، فستندم، ولن ينفعك الندم بعد ذلك.» ثم زاد المرض في الشيخ، ومات، فغسّله الشاب بنفسه وكفّنه ودفنه بجانب رفاقه.

فبقي الشاب في ذلك المكان، ومعه المسكن والكنوز، لكنه ظلّ قلقًا يفكّر في أمر الشيوخ. وبينما هو متأمّل، خطرت له فكرة أن ينظر ما وراء ذلك الباب المحذور. فتوجّه إلى الباب، ووجد عليه شبكة عنكبوت وُضِعت عليه، وكان عليه أربعة أقفال من الحديد. فلما رأاه، تذكّر تحذير الشيخ، فابتعد عنه. لكنه استولى عليه الشوق، فحتّى أيام سبعة كبح نفسه، لكن في اليوم الثامن غالبته نفسه فقال: «لابد أن أفتح هذا الباب، لأرى ما يحدث معي، فإن الله ما كتب إلا ما شاء وقدر.» فنهض، وفتح الأقفال، فشَقت الباب ودخل.

فوجد ممرًّا ضيّقًا، فمشاهدة الممر استغرقت ثلاث ساعات، ثم خرج إلى ضفة نهر كبير. فعجب الشاب لحاله، ومشى على ضفة النهر، يطالع الطرفين يمينًا ويسارًا، فإذا نسرٌ عظيم هبط من السماء، حمله بمخالبه، وطار به بين الأرض والسماء، حتى ألقاه في جزيرة وسط البحر، ثم انصرف.

فأصبح الشاب محتارًا، لا يدري إلى أين يذهب. وبينما هو جالس في أحد الأيام، رأى في البحر ظهر مركبٍ قادم، كالنجم في السماء، فاشتدّ أمله أن ينجو به. ظل يراقب المركب حتى اقترب منه، فإذا بها سفينة من عاج وأبنوس، مجاديفها من خشب الصندل والعود، ومكسوة بالصفائح الذهبية، وعلى متنها عشر فتيات عذارى كالبدر. فلما رأينه، نزلن إليه من السفينة، وقبَّلن يديه قائلين: «أنت الملك، يا عريسُ.» ثم تقدّمت إليه فتاة كالشمس في صفاء السماء، تحمل في يدها كِتّانًا حريريًّا فيه ثوب ملكي وتاجًا ذهبيًّا مُرصَّعًا بالياقوت.

لبسها وربطها برأسه، وبعد ذلك حملنه الفتيات إلى السفينة، ووجد على متنها سُجاجيد حريرية ملونة. ثم أبحرن به في أعماق البحر. يقول الشاب: «حين خرجت معهن، ظننت أنني أحلم، ولم أعرف إلى أين يذهب بي الأمر. وعندما ظهرت اليابسة، رأيت بساتين وقصورًا وأشجارًا وأنهارًا وزهورًا، وطيورًا تهلل بكمال الله الأحد القهّار.»

ثم انبثقت من تلك القصور جيوش، كالسيل عندما يجري، حتى ملأت البساط. وعندما اقتربت الجيوش، هلّلت له، وإذا بملك يقدُم من بينهم راكبًا وحده، مسبوقًا ببعض كباره ماشين. فاقترب الملك من الشاب، ونزل عن جواده، ونزل هو أيضًا، وسلّما تحيةً مباركة. ثم ركبا خيلهما معًا، وقال الملك للشاب: «تعال معنا، فأنت ضيفي.» فرافقه الشاب، وتحاورا، وكلّ القطع التي تقدّمت استمرت في التقدم إلى القصر الملكي، حيث دخلا، وكان الشاب يمسك يد الملك، الذي جلس بجانبه على العرش الذهبي.

وعندما رفع الملك الفُرَس عن وجهه، فإذ هو في الحقيقة فتاة! نعم، كانت امرأة، جميلة حسناء، هي ملكة ذلك البلاد. فقالت له: «اعلم، يا ملك، أني أنا ملكة هذه الأرض، وهذه الجيوش التي رأيتها، سواء في المشاة أو الفرسان، كلها نساء. ليس في بلادنا رجال يحكمون أو يحاربون، بل النساء هن الحكّام والقاضيات والجنود. أما الرجال فعملهم الزراعة والبناء والتجارة والحِرَف.» فتعجب الشاب بشدة من هذا الأمر.

وقال الملكة بعد ذلك مخاطبة له: «هل ترضى أن أكون لك زوجة؟» فنهض الشاب وقبّل الأرض أمامها، لكنها منعه من ذلك، فقال: «يا مولاتي، أنا أقلُّ ممن يخدمك.» فقالت له: «أترَها لا تراها؟ هذه الخدم والجنود والثروات كلّها تحت تصرّفك، فاستعملها كما تشاء.» ثم أشارت إلى باب مغلق، وقالت: «كل ما ترى بيدك أن تتصرّف فيه، لكن هذا الباب لا تفتحه، فإنك إن فتحته ستندم، ولن ينفع الندم بعد ذلك.» لم تنتهِ كلماتها حتى دخلت نحو القاضي والشهود، وكانوا جميعًا من النساء المسنّات، بشعرٍ متساقط ووقار، ثم أُقيم الزواج بين الشاب والملكة.

أعدّت الملكة الولائم، وجُمِعت الجيوش، وبعد أن أكلوا وشربوا، أخذ الشاب زوجته، وأقام معها سبع سنوات، في سعادة وهناء.

لكن ذات يوم تذكّر الشاب فتح الباب المحظور، فقال في نفسه: «لو لم يوجد في داخله كنوز أعظم مما رأيت، لما نهتني الملكة عن فتحه.» فنهض وفتحه. فإذ بدا له فيه الطير الذي حمله من ضفة النهر إلى الجزيرة، وقد رآه، فقال له: «ما أرحب الوجوه التي لن تَسعد أبدًا!» فلما سمع كلامه فرّ هاربًا، لكن الطير لاحقه، وحمله بين الأرض والسماء ساعة، ثم ألْقاه في المكان الذي كان قد أُخِذ منه، ثم اختفى.

فجلس الشاب في ذلك المكان، واستوى عقله، وتأمل ما رآه من رخاء وجلال، وفرسان وأمر ونهي، فابتدأ يبكي ويولول. فظلّ على ضفة النهر شهرين، متمنّيًا أن يعود إلى زوجته، لكن في إحدى الليالي، وهو ساهر مفكر، سمع صوتًا دون أن يرى من المتكلّم يقول: «ما أعظم النعيم الذي فاتك! بعيدٌ عنك عودته! وكم ستكون من الأنَّات بعد ما فات!» فلما سمع الشاب الكلام، يئس من لقاء الملكة، ومن رجوع الثراء الذي عاشه.

ثم دخل الشاب المسكن الذي كان فيه الشيوخ، وعلم أن ما حلّ بهم كان مثل ما حلّ به، وأن هذا هو سبب بكائهم وندمهم، فسامحهم في نفسه. اجتاحه الأسى والهمّ، ودخل غرفته، فظلّ يبكي ويتألّم، تاركًا طعامًا وشرابًا وطيبًا وضحكًا، حتى مات، فدفنوه بجانب الشيوخ.

0 التعليقات: