يبدو أن ما يعيشه الشارع المغربي من حراك شبابي متسارع ومضطرم لا يمكن فهمه فقط من زاوية سياسية أو اقتصادية ضيقة. إننا أمام ظاهرة اجتماعية مركبة، تتداخل فيها العوامل النفسية والعصبية والثقافية والرقمية. فجيل Z المغربي، الذي وُلد بين منتصف التسعينات وبداية الألفية الجديدة، يعيش اليوم في زمن مختلف كليًا عن زمن الأجيال السابقة. إن دماغه يعمل بسرعة تفوق إيقاع المؤسسات، وحواسه متصلة بشبكة من المثيرات البصرية والمعلوماتية تجعله في حالة استنفار دائم، يبحث عن معنى لحضوره في مجتمع يتغير ببطء شديد.
حين ننظر إلى هذا الجيل
بعين عالم الاجتماع وعالم النفس العصبي، نكتشف أن وراء اندفاعه الجماعي ما هو أعمق
من مجرد غضب سياسي أو مطالب اجتماعية. فالعلم يوضح أن المادة الكيميائية المسماة
"الدوبامين" تلعب دورًا حاسمًا في تحفيز الدماغ على الفعل. إنها لا تمنح
السعادة كما يعتقد البعض، بل تنظم الإحساس بالمكافأة والتوقع والإنجاز. وعند الشباب
تكون دوائر إنتاجها أكثر نشاطًا، ما يجعلهم أكثر حساسية تجاه كل وعد بالتجديد والانعتاق.
لذلك حين يسمعون نداءً جمعويا يَعِد بالكرامة أو العدالة، فإن أدمغتهم تتفاعل كما لو
أنها بصدد تلقي مكافأة حقيقية. ومن هنا ينبع ميلهم الطبيعي إلى التحرك الفوري، إلى
الخروج إلى الساحات بدل انتظار الإصلاح البطيء. إنه ليس تهورًا كما يُصوَّر للبعض أحيانًا،
بل استجابة عصبية لبيئة اجتماعية تُغريهم بالفعل الآن، لا غدًا.
تُظهر الدراسات العصبية
أن أدمغة الشباب تحتوي على عدد أكبر من الوصلات العصبية قبل أن تبدأ عملية التقليم
الطبيعية التي تقللها مع التقدم في العمر. إن هذه الكثافة تجعلهم أسرع في استقبال المعلومات
وأكثر تفاعلًا مع ما يحيط بهم.
في المغرب، حيث أصبح
الهاتف الذكي جزءًا من الجسد، تحوّلت الشاشات إلى امتداد عصبي إضافي، تربط بين الأفراد
في شبكة ضخمة من الانفعالات والرموز. وهكذا، يصبح التدوينة أو الهاشتاغ بمثابة نبضة
كهربائية تنتقل من الدماغ الفردي إلى الدماغ الجماعي في لحظة واحدة. نحن إذن أمام جيل
يمتلك دماغًا اجتماعيًا متصلًا لا يعرف الهرمية، بل يتغذى من العدوى الإيجابية ومن
الحافز الجماعي.
إضافة إلى ذلك، يتميز
هذا الجيل بلدونة عصبية عالية، أي بقدرة الدماغ على تعديل نفسه بسرعة وفق التجارب الجديدة.
لذلك فإن الفشل بالنسبة لهم ليس عائقًا بل مرحلة تعلم. في كل تجربة احتجاجية أو رقمية،
تتشكل لديهم خبرات جديدة في التنظيم والتعبئة والهتاف وصياغة الشعارات. إنهم جيل يتعلم
وهو يفعل، ويطوّر آلياته في الزمن الحقيقي دون حاجة إلى بنية مركزية. وهكذا، يمكن أن
تتغير تكتيكاتهم بين ليلة وضحاها لأن الدماغ ببساطة يعيد رسم خرائطه العصبية بسرعة
البرق.
لكن المفارقة الكبرى
تكمن في الصدام بين هذه السرعة العصبية والبطء البيروقراطي الحكومي الذي لا يزال يطبع
أداء مؤسسات الدولة. فبينما يمكن لنداء رقمي أن يتحول إلى حشد ميداني في ساعات
قليلة ، تظل الإجراءات الإدارية والسياسية رهينة مذكرات ومداولات تستغرق أيامًا أو
أسابيع. هذا الاختلال في الإيقاع الزمني يخلق توترًا متبادلًا: الشباب يشعرون بأنهم
أسرع من مؤسساتهم، والمؤسسات تنظر إليهم كقوة فوضوية لا يمكن ضبطها. في الواقع، نحن
لا نعيش صراع أجيال، بل اختلافًا في الزمن العصبي والاجتماعي بين جيل رقمي سريع وجهاز
إداري بطيء.
غير أن هذا الجيل لا
يتحرك بدافع الغضب وحده، بل أيضًا بدافع أخلاقي عميق. إنه جيل شديد الحساسية تجاه مفاهيم
العدالة والكرامة والشفافية. لا يريد أن يُخاطَب بلغة الوصاية، بل بلغة المشاركة والاعتراف.
يرفض الخطاب المتعالي أو البطيء، ويعتبر التأخير في الرد إهانة في ذاته. لذلك، فإن
أي خطاب رسمي لا يواكب إيقاعه الزمني يُستقبل في وعيه كعلامة على التجاهل أو اللامبالاة.
في المقابل، حين يشعر بأن صوته مسموع، يهدأ إيقاعه العصبي ويتحول اندفاعه إلى تعاون.
هذا الفهم لا يعني
تبرير كل مظاهر الاندفاع أو الفوضى، بل يفتح الباب لتصميم استجابات أكثر ذكاءً. ففي
المجال الأمني، لا ينبغي مواجهة الشباب بالزجر، بل بالحوار الميداني والوساطة التي
تخفف التوتر وتحافظ على كرامة الطرفين. وفي مجال التواصل العمومي، يجب أن يكون الخطاب
واضحًا وسريعًا ومقنعًا، لا غامضًا ومؤجلاً. أما الإعلام، فعليه أن يتخلى عن الصورة
النمطية التي تصف الشباب بالمشاغبين، وأن يفتح المجال لتعابيرهم وتجاربهم الإيجابية
حتى ينتشر الأمل بدل عدوى الغضب.
لكن لا يكفي الفهم؛
فالفعل السياسي يجب أن يترجم هذا الوعي إلى سياسات ملموسة. المغرب في حاجة إلى مؤسسات
رقمية سريعة الاستجابة تستقبل شكاوى المواطنين وتقترح حلولًا في آجال محددة. كما نحتاج
إلى إدماج التربية المدنية والذكاء الاجتماعي في المناهج الدراسية، لتدريب التلاميذ
على فن التعبير السلمي والحوار والتفاوض. وينبغي أيضًا أن تتوفر المدن على فضاءات حضرية
مهيأة للتجمع والتعبير المنظم، بدل ترك الساحات تتحول إلى بؤر توتروعنف. وإلى جانب
ذلك، يجب دعم ريادة الأعمال الثقافية والتكنولوجية للشباب حتى يجدوا متنفسًا لإبداعهم
بدل تصريف طاقتهم في الغضب. وأخيرًا، لا بد من توفير مراكز قريبة للدعم النفسي والاجتماعي،
لأن المجتمع الذكي يقيس درجة حرارته قبل أن يشتعل.
إن جيل Z المغربي ليس خصمًا للدولة أو لمجتمع
الكبار، بل مرآة للمستقبل. وما نراه من اندفاعه ليس تمرّدًا على القيم، بل على البطء،
وعلى لغة لا تشبه زمنه. وعلى الدولة أن تدرك أن الزمن الاجتماعي تغيّر، وأن الدماغ
الجماعي للأمة أصبح أكثر سرعة وحساسية. وعلى الشباب أن يدركوا بدورهم أن التغيير الحقيقي
لا يُقاس بعدد المشاهدات أو التريندات، بل بقدرتهم على تحويل الطاقة إلى بناء واستمرارية.
حين ننجح في تحقيق
هذا التوازن بين محرك الدوبامين وبوصلة الحكمة، سيغدو الحراك الشبابي في المغرب قوة
تحديث لا قوة احتجاج، وستصبح العلاقة بين الشارع والمنصة والمؤسسة علاقة تكامل لا صدام.
فالشباب ليسوا ظاهرة أمنية، بل رأسمال عصبي واجتماعي يمكن أن يعيد للمجتمع حيويته وللدولة
مشروعها في الإصغاء والإصلاح.
0 التعليقات:
إرسال تعليق