تعيشُ السينما، في أواخر ٢٠٢٥، لحظةَ انتعاشٍ عالمي واضح؛ من مراكش إلى القاهرة، ومن عواصم أوروبا إلى هوليوود، تتحرّك الصناعة بين مهرجانات كبرى، ومبادرات دعم جديدة، ونجاحات شباك تذاكر تُعيد الثقة في قاعات العرض بعد سنوات الاضطراب الوبائي والرقمي معًا.
أوّلًا: المغرب… مراكش تُجدِّد سحر الشاشة الكبيرة
في المغرب يتجه الاهتمام هذه الأيام إلى الدورة الثانية والعشرين للمهرجان الدولي للفيلم بمراكش، التي تُقام ما بين ٢٨ نونبر و٦ دجنبر ٢٠٢٥، وتَعدُ الجمهور ببرمجة قويّة تضمُّ ٨٢ فيلمًا من ٣١ دولة موزّعة على مسابقات مختلفة، مع تكريم أربعة أسماء وازنة: جودي فوستر، غييرمو ديل تورو، الممثلة الجزائرية رحوعة، والنجم المصري حسين فهمي، في تأكيد لدور مراكش كجسر ثقافي بين القارات وخزان للحوار السينمائي بين الشمال والجنوب.
هذا الزخم المهرجاني يواكبه حضور مغربي متزايد في منصّات أخرى؛ فقد شاركت في الأسابيع الماضية فيلمان مغربيان ضمن منافسات مهرجان بروكسيل الدولي، من بينها فيلم Les Fourmis الذي عُرض في مسابقة الأفلام الروائية الطويلة أمام قاعة ممتلئة، في إشارة إلى الاهتمام الأوروبي المتنامي بالسينما المغربية الجديدة.
وعلى مستوى الصناعة، سجّل خبرُ اختيار المغرب كأوّل بلد إفريقي "دولة ضيف شرف" في سوق الفيلم الأوروبي ببرلين (EFM) لسنة ٢٠٢٦ حدثًا مفصليًّا؛ إذ يعكس هذا الاختيار، المُعلن في أكتوبر الماضي، انتقال المغرب من موقع "الديكور الخارجي" إلى موقع شريك إنتاجي مؤثر في الخريطة السينمائية الدولية.
في السياق نفسه، تتواصل حركة الإنتاج الأجنبي في المدن المغربية؛ فقد بدأ فريق عمل السلسلة الفلبينية Love is Never Gone تصوير جزء من مشاهده في المغرب، مستفيدًا من تنوّع الفضاءات الطبيعية والحضرية ومن بنية تحتية إنتاجية آخذة في التطور.
كل ذلك يجعل من ٢٠٢٥ سنة تثبيت لموقع المغرب كمنصّة تصوير عالمية، وكمختبر حقيقي لشراكات جديدة بين المنتجين المحليين والأجانب.
ثانيًا: السينما العربية… بين مبادرات التوزيع وتحولات التمويل
على مستوى العالم العربي، يبقى مهرجان القاهرة السينمائي الدولي ٢٠٢٥ واجهةً أساسية؛ حيث يشارك هذا العام ثلاثة عشر فيلمًا مدعومًا من الصندوق العربي للثقافة والفنون (آفاق) في أقسام مختلفة من المهرجان، تجمع بين أفلام تُسجِّل تحولات اجتماعية وسياسية وأخرى تمزج بين الواقعي والغرائبي، مع حضور قوي لأسئلة الهوية والسرد من منظور عربي جديد.
إلى جانب المهرجانات، برزت مبادرة CineMAD التي أعلنت عنها شركة MAD Solutions خلال حفل اختتام مهرجان القاهرة، والهادفة إلى نقل أفضل الأفلام العربية التي تجوب المهرجانات العالمية إلى قاعات العرض التجارية في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. ستنطلق العروض من ثلاث قاعات في القاهرة في دجنبر ٢٠٢٥، على أن تتوسّع جغرافيًّا لاحقًا، وهو ما يعالج واحدًا من أقدم أزمات السينما العربية: الفجوة بين نجاح الفيلم في المهرجانات وصعوبة وصوله إلى الجمهور الواسع.
في الخليج، تتحرّك قطر بقوة لتثبيت حضورها السينمائي؛ إذ أُعلن عن شراكات جديدة مع استوديوهات دولية وبرنامج لاسترداد ٥٠٪ من تكاليف الإنتاج للأعمال التي تُصوَّر على أراضيها، في خطوة تجعلها منافسًا مباشرًا لأبوظبي والسعودية في مجال جذب الإنتاجات الضخمة وإعادة تشكيل خريطة التمويل العربي للأفلام. كما أُعلن عن اتفاق تعاون بين لجنة الفيلم القطرية وشركة Miramax لإطلاق مشروع عربي باللغة العربية يحمل عنوان Serendipity، مما يشي بمرحلة جديدة من الشراكات العابرة للقارات في صناعة الفيلم العربي.
أما في السعودية، فتُظهر الأرقام استمرار نمو السوق السينمائي؛ إذ تجاوزت إيرادات شباك التذاكر في ٢٠٢٤ ما يعادل ٨٤٥ مليون ريال، مع توقّعات بوصول حجم السوق إلى نحو ٩٥٠ مليون دولار بحلول ٢٠٣٠، بدعم من رؤية ٢٠٣٠ والبنية التحتية الجديدة من قاعات العرض. هذا التوسع الخليجي يفرض على السينما العربية برمتها إعادة التفكير في مسارات الإنتاج والتوزيع والجمهور.
ثالثًا: أوروبا… احتفال بالسينما الفنية وإعادة ابتكار الجوائز
في أوروبا، يواصل المشهد السينمائي التأرجح بين الإنتاجات التجارية الكبرى وعودة الاهتمام بالسينما الفنية (Arthouse). فقد شهد يوم ٢٣ نونبر تنظيم اليوم الأوروبي للسينما الفنية في حوالي ٦٥٠ قاعة سينما ومؤسسة ثقافية في أكثر من ٤٦ دولة، حيث قُدمت عروض خاصة ونقاشات ولقاءات مع صنّاع الأفلام، في مبادرة تُؤكّد رغبة القارة في حماية فضاء المشاهدة الجماعية للأعمال المستقلة من ضغط المنصّات الرقمية.
وفي إيطاليا، وزّعت جوائز مهرجان السينما الأوروبية في دورته السادسة والعشرين، حيث حصد فيلم The Love That Remains للمخرج الآيسلندي هلينور بالماسن جائزة التصوير تقديرًا لقدرة الصورة على سرد تعقيد علاقة إنسانية في لحظاتها الأخيرة، في انسجام تام بين الكاميرا والسينوغرافيا.
كما أعلنت شبكة Europa Cinemas عن جوائزها السنوية التي منحت هذا العام لثلاث قاعات في فيينا وفروتسواف وفرنسا، مكافأةً لجهودها في دعم السينما الأوروبية وتوسيع قاعدة جمهورها. وعلى مستوى الجوائز الكبرى، أطلقت الأكاديمية الأوروبية للسينما موسماً أوروبياً جديداً للجوائز، وكرّمت المخرجة الإيطالية أليس رورفاخر بجائزة الإنجاز الأوروبي في السينما العالمية، في إشارة إلى تقدير متزايد للأصوات السينمائية التي تزاوج بين المحلي والكوني في آن واحد.
رابعًا: أمريكا… شباك التذاكر يستعيد أنفاسه مع "ويكد" وما بعده
في الضفة الأخرى من الأطلسي، تعيش هوليوود لحظة انتعاش واضحة بفضل نجاحات شباك التذاكر الأخيرة. فقد حقّق فيلم Wicked: For Good – الجزء الثاني من اقتباس المسرحية الغنائية الشهيرة – افتتاحًا عالميًّا ضخمًا بلغ ٢٢٦ مليون دولار، منها ١٥٠ مليونًا في أمريكا الشمالية وحدها، ليُسجَّل كأكبر افتتاح لفيلم مقتبس عن عمل برودواي وثاني أكبر افتتاح لسنة ٢٠٢٥ بعد A Minecraft Movie. كما أظهرت الأرقام أن ٧١٪ من جمهور الافتتاح من النساء، في مؤشر لنجاح هوليوود في استقطاب فئة ظلّت تبحث عن تمثيل جديد وحكايات مختلفة.
بيانات شباك التذاكر الأمريكية الأخيرة تُظهر كذلك أن صالات العرض بدأت تتخلّص من "تعب ما بعد الجائحة"، مع أفلام أخرى مثل Predator: Badlands وThe Running Man وSisu: Road to Revenge التي تملأ برمجة الخريف، بينما تترقّب السوق عناوين جديدة خلال موسم الأعياد.
هذا الحراك التجاري يرافقه سباق ضخم على "أكثر الأفلام ترقّبًا لسنة ٢٠٢٥"، حيث تُراهن الاستوديوهات على مزيج من الأجزاء الجديدة لسلاسل ناجحة، وأعمال أصلية تحاول أن تجد لنفسها موطئ قدم بين أفلام الأبطال الخارقين والرسوم المتحركة والخيال العلمي.
خيط واحد يربط المشهد: من المهرجان إلى المنصّة… ومن المحلّي إلى العالمي
إذا جمعنا هذه الصور المتفرقة من المغرب والعالم العربي وأوروبا وأمريكا، سنجد خيطًا واحدًا يتكرّر:
هناك محاولة مستمرة لإعادة تعريف علاقة السينما بجمهورها في زمن المنصّات الرقمية. مراكش والقاهرة تحرّكان مياه السينما العربية عبر المهرجانات والمبادرات الجديدة؛ أوروبا تدافع عن قاعاتها الفنية وعن نموذج المشاهدة الحضورية؛ أمريكا تراهن على عروض ضخمة تُعيد العائلات إلى الشاشات العملاقة؛ فيما تواصل بلدان مثل المغرب وقطر والسعودية إعادة رسم خرائط الإنتاج والتمويل.
في كل ذلك، تظهر السينما – رغم الأزمات – كفنٍّ يصرّ على أن يبقى لغةً كونيةً، قادرة على جمع البشر في الظلام نفسه، أمام شاشة واحدة، بحثًا عن قصة جديدة تعيد ترتيب علاقتهم بالعالم وبأنفسهم.








0 التعليقات:
إرسال تعليق