الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


إعلانات أفقية

الثلاثاء، نوفمبر 25، 2025

معهد العالم العربي بباريس يعيد فتح الذاكرة الفلسطينية عبر سلسلة بودكاست تاريخية عن غزّة

 


لم يكن معهد العالم العربي في باريس، وهو واحد من تلك المؤسسات التي تنصت للذاكرة أكثر مما تتكلم، ليترك غزّة وحدها في هذا الزمن الثقيل. هكذا، دون ضجيج، أطلق دورة بودكاست تستعيد ما تراكم فوق صدر المدينة من حكايات وأزمنة، كما لو أنه يريد أن يُمسك بخيطها الأخير قبل أن ينقطع في العاصفة. سلسلة صوتية تتعامل مع التاريخ مثلما يتعامل الراوي القديم مع دفتره: يقلب صفحاته ببطء، ويخشى أن يفلت منه شيء.

غزّة، تلك البقعة التي تلتقي عندها حدود مصر وبلاد الشام، تظهر في هذه الحلقات مثل مدينة تعرف جيداً أنها كانت معبراً ومرفأ وموطناً للأنبياء والقوافل والممالك. مدينة ظلّت كل قوةٍ مرّت من هنا تعتبرها عتبة للعالم. ومع ذلك، فهي تحفظ نبرة خاصة، شيئاً يشبه عناد البحر، وصوتاً لا يُشبه سواه.

ضمن برنامج "خميس المعهد"، يعيد البودكاست رسم صورة طويلة المدى لتاريخ غزّة في أربع محطّات، كل واحدة منها كأنها نافذة صغيرة تُطلّ على قرن أو قرنين من الزمن. وفي البدء، هناك تلك الحلقة التي تفتح على غزّة القديمة، حيث تتحرّك قوافل البخور، وتتنفّس المدينة رائحة التوابل والملح، وتتنازعها الإمبراطوريات التي كانت تحسب أن السيطرة عليها تمنحها مفتاح الطريق بين القارّتين.

ثمّ تأتي غزّة الوسيطة، بعمارتها المملوكية وطبقاتها العربية الأولى. هنا، لا يتحدث الرواة فقط عن فتحٍ أو حكمٍ، بل عن لحظة مضيئة عرفت فيها المدينة ازدهاراً جعلها مركزاً للتجارة والعلوم، تماماً كما نجد اسمها مطبوعاً على خرائط الجغرافيين القدامى.

بعد ذلك، تتباطأ الخطوات قليلاً في حلقة غزّة العثمانية والانتدابية. الزمن في هذا الجزء يصبح أكثر ثقلاً. نهاية حكمٍ طويل، وبداية استعمار جديد. يشبه الأمر انتقال الضوء بين غيمة وأخرى. ومعه تظهر تحوّلات اجتماعية وسياسية ستقود لاحقاً إلى تشكّل القضية الفلسطينية كما نعرفها اليوم.

غير أنّ أكثر الحلقات ألماً تلك التي وُضع لها عنوان صريح: تدمير التراث منذ 7 أكتوبر 2023. لا يتكلم الباحثون هنا بلغة المؤرّخ المحايد، بل بلغة من يرى الأطلال وهي تُهدم أمامه: مساجد قديمة، أضرحة، أسواق، مراكز ثقافية، بيوت من زمن لم يعد موجوداً. ويبدو السؤال في هذه الحلقة أقلّ تاريخياً وأكثر إنسانياً: كيف يحيا تراث مدينة عندما تتحوّل الجغرافيا نفسها إلى رماد؟

بين حلقة وأخرى، يبدو المشروع كله كرسالة هادئة يقولها المعهد بلغة غير مباشرة: إن غزّة ليست خبراً عابراً ولا أرضاً مُعبّأة بالدخان فقط، بل مدينة لها ذاكرة تمتد من أعماق تاريخ الشرق حتى وجع اللحظة الراهنة. مدينة تعلّمت، على مدى قرون، كيف تعيد كتابة نفسها كلما حاول الآخرون أن يمحوا حروفها.

وبهذا البودكاست، يعيد معهد العالم العربي الاعتبار لصوتٍ ظلّ طويلاً مغطّى بالضجيج: صوت مدينة تعرف أن التاريخ لا يُكتب دائماً بالحبر، بل أحياناً بما تبقّى من حجارةٍ وشظايا وأغنية قديمة لا تزال تتردّد في الأزقّة.

0 التعليقات: