الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


إعلانات أفقية

الأربعاء، نوفمبر 26، 2025

كيف تُمسك الخوارزميات بزمام السرد؟ عبده حقي


في السنوات الأخيرة، صار من الصعب تجاهل ذلك الحضور الخفيّ للخوارزميات وهي تتحرك داخل المجال الروائي كما لو أنّها أصابع شفافة تعبث بهوامش المخطوطات. لم تعد فكرة «الرواية التي تكتبها الآلة» مجرّد مزحة لغوية، بل تحوّلت إلى احتمالٍ جاد، يجد ما يُدعّمه في تجارب نقدية وفلسفية كثيرة، من بينها ما طرحه سكوت رِتْبَرغ في كتابه عن الأدب الإلكتروني، حين تحدّث عن النصّ بوصفه كيانًا متحوّلًا لا يكفّ عن الانزلاق نحو صيغ جديدة.

ولعلّ ما يدفع هذا التحوّل ليس التقنية وحدها، بل الإحساس بأنّ البيانات نفسها أصبحت نوعًا من الذاكرة الجماعية؛ ذاكرة تُخزّن كل شيء: قراءاتنا، اختياراتنا، تفضيلاتنا، وحتى أخطائنا الصغيرة. فإذا كان كتاب شوشانا زوبوف عن «رأسمالية المراقبة» قد كشف كيف تُستخدم البيانات في صناعة الواقع السياسي والاقتصادي، فمن الطبيعي أن يتسرّب هذا المنطق إلى صناعة الخيال أيضًا. إنّها المرة الأولى التي يصبح فيها الخيال مُستمدًّا من ملايين الآثار الرقمية بدل التجربة الفردية.

قوّة الخوارزميات لا تأتي من خيالها –فهي لا تملك خيالًا– بل من قدرتها على تحليل ما لا يستطيع عقل فرد واحد أن يُحيط به. ملايين الروايات تُقرأ في دقائق. ملايين الأنماط تُفكّك ثم تُعاد صياغتها. وهكذا تظهر شخصيات «محسوبة»، ليست من لحمٍ ودم، لكنها تمتلك ما يشبه تاريخًا واستمرارية، كما لو أنّها خرجت من مدرسة سردية لا يعرفها أحد. وفي اليابان، وصل نصّ آليّ قبل سنوات إلى المرحلة الأولى من جائزة أدبية، وهو ما أثار ضجّة حول الحدود الفاصلة بين الإبداع والمحاكاة.

غير أنّ كل هذا يقودنا إلى سؤال مؤرق: هل تكفي «البيانات» لتصنع روح رواية؟ إنّ الرواية التي تهزّ القارئ ليست سردًا متقنًا فقط، بل شرارة يصعب تفسيرها. تلك الشرارة التي نجدها في روايات مثل الخبز الحافي أو في اللغة المتكسّرة الساحرة لـ الكابوس عند كافكا. شيء يتجاوز القياس. شيء لا يمكن لآلة أن تلتقطه مهما بلغت دقّتها.

لكن الخطر الحقيقي لا يكمن هنا. الخطر الحقيقي هو أن الخوارزميات لا تتعلم من النصوص وحدها، بل من القرّاء أيضًا. ماذا يعجبهم؟ أين يتوقفون؟ ما النهاية التي يكرهونها؟ وهكذا تصبح الرواية، من حيث لا ندري، مكتوبة على مقاس الجمهور، مثل ثوب صُمّم بعد قياس دقيق بآلات رقمية. وقد يبدو هذا جميلًا، لكنه يهدّد جوهر الرواية نفسها: قدرتها على ممانعة القارئ أحيانًا، على مواجهته، على أن تقول ما لا يريد أن يسمعه.

ورغم كل شيء، يبقى الكاتب البشريّ ضرورة لا يمكن الاستغناء عنها. ليس لأن الآلة عاجزة، بل لأن هناك في الكتابة شيئًا لا يخضع لأي حساب: جملة لا تشبه ما قبلها، خطأ لغوي يتحوّل إلى استعارة، فكرة تظهر في الليل ولا يعرف صاحبها كيف خطرت له. هذا «اللاتوقّع» هو ما يهب الرواية حياتها، وهو ما سيظلّ صعبًا على أي نموذج حسابي مهما بلغ.

ربما سيأتي يوم تتعايش فيه الروايات التقليدية مع تلك المولَّدة عبر الخوارزميات، كما تتعايش اليوم الكتب الورقية مع الرقمية. وسيكون لكل نوع قرّاؤه. غير أن السؤال الأكبر سيبقى مفتوحًا: من أين تأتي الروح التي تمنح النصّ قيمته؟
طالما ظلّ هذا السؤال بلا جواب، سيظلّ الكاتب الإنساني آخر حارسٍ للدهشة في عالمٍ بات يُقاس كله بالأرقام.

0 التعليقات: