الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


إعلانات أفقية

الأربعاء، نوفمبر 26، 2025

المغرب بين شرعية الخارج وأسئلة الداخل: عبده حقي


لا أعرف كيف يمكن تلخيص اللحظة السياسية التي يعيشها المغرب الآن دون أن أشعر بأنّ الكلمات أضيق من المعنى. كلّ ما يمكن قوله هو أنّ البلاد تبدو وكأنها واقفة على عتبة مرحلة جديدة، مرحلة تتداخل فيها رائحة الدبلوماسية الدولية مع أنفاس الشارع اليومي. شيء يشبه المشي في طريق مزدوج: نصفه مضاء جيداً من الخارج، ونصفه ما يزال يبحث عن مصباح داخلي.

منذ أن صدر القرار الأممي الأخير المتعلق بالصحراء، حمل الرقم 2797، تغيّر شيء عميق في الهواء. بدا وكأنّ العالم لأول مرة يسمع الرواية التي ظلّ المغرب يردّدها بصبر طويل: أنّ الحكم الذاتي ليس مجرد فكرة سياسية، بل حلّ واقعي، قابل للحياة، ويستطيع أن يطوي صفحة نزاع عمره نصف قرن.

وما إن بدأت تفاصيل القرار تُقرأ بتمعّن، حتى ظهر ذلك التحوّل في اللغة: الجزائر باتت تُذكَر بوصفها طرفاً مباشراً، وليس جاراً يقف على الهامش. وهذا وحده كافٍ لفهم أن الخريطة القديمة للنزاع صارت أقلّ صلاحية للاستخدام.

أذكر أنني حين طالعت نص القرار لأول مرة أحسست أن شيئاً ما انكسر في الخطاب الانفصالي، ليس بضربة واحدة، بل بتآكل هادئ، كأنّ الرمل يتحرك تحت أقدام فكرة قديمة.

في الداخل، ارتفع الصوت السياسي بنبرة مختلفة: أحزاب تتحدث عن “المرحلة التاريخية”، وجلسات نقاش هنا وهناك، وابتسامات عريضة في خطاب المسؤولين. بدا وكأنّ الجميع يشارك في رسم ملامح مشهد يريد أن يثبت بأن المغرب دخل عصرا جديدًا.

هناك من يصف هذه اللحظة بـ“ثمار الصبر الطويل”، وآخرون يرون أنها نتيجة عمل دبلوماسي عاش على الفكرة نفسها لسنوات، لا يرفع صوته لكنه لا يتراجع أيضاً.

الحكومة من جهتها تتحرك كمن يريد أن يضع كلّ الأوراق فوق الطاولة قبل انتخابات 2026. تتحدث عن تحسّن المؤشرات، وعن ارتفاع المداخيل، وعن فرص الشغل التي تقول إنها بدأت تتحرك ببطء ولكن بثبات.

قد يختلف الناس حول الأرقام، لكن المشكلة ليست في الأرقام وحدها، بل في الإحساس العام. أحياناً يشعر المواطن بأنّ الأرقام تلمع أكثر مما يلمع الواقع، وأن الحياة اليومية هي الاختبار الحقيقي لأيّ خطاب.

وفي المقابل، تقف المعارضة في الجهة الأخرى مثل شخص يلوّح بيده قائلاً: “تمهّلوا… الصورة ليست وردية إلى هذا الحد.

حديث عن الغلاء، عن البطالة، عن تمركز القرار، وعن الأجيال الجديدة التي يبدو أنها لا تجد نفسها في الأحزاب القديمة.

حتى في الفضاء الرقمي، يمكن للمرء أن يسمع الضجيج: أسئلة متعبة حول العدالة الاجتماعية، حول فرص الحياة، وحول ذلك الإحساس الغامض بأنّ الطريق بين الدولة والمواطن أصبح أطول مما يجب.

هكذا يبدو المشهد إذا حاولنا أن نصفه بصراحة:

نجاح دبلوماسي كبير في الخارج، وامتحان داخلي لم تُحسم نتيجته بعد.

وعلى هذا الخط الرفيع يقف المغرب الآن، يحاول أن يحوّل الانتصارات الخارجية إلى مكاسب يشعر بها الناس في تفاصيل يومهم: في المدرسة، في المستشفى، في فرصة شغل، في فاتورة الماء والكهرباء لا تُثقل مساءات البيوت.

ربما يكون السؤال الحقيقي هو:

هل يستطيع المغرب أن يجعل هذه اللحظة السياسية نقطة انطلاق نحو مصالحة داخلية واسعة؟

هل يمكن لانتخابات 2026 أن تكون بداية فصل جديد، لا إعادة ترتيب لوجوه قديمة؟

وهل يستطيع الشارع، بكل تناقضاته، أن يجد سبباً جديداً للثقة؟

لا أحد يملك الجواب الآن. لكن ما يبدو مؤكداً هو أنّ البلاد تتحرك، حتى لو كان بعض خطواتها متردداً. وأنّ ما يحدث اليوم قد يكون، بعد سنوات، تلك اللحظة التي سيشير إليها المؤرخون بقولهم: “هنا بدأت مرحلة جديدة.”

0 التعليقات: