تُظهِرُ أخبارُ المهاجرينَ العربِ في العالمِ اليومَ صورةً معقَّدةً، تتقاطعُ فيها أحلامُ الفردِ البسيطِ مع حساباتِ السياساتِ الكبرى، بين خطابِ الكراهيةِ من جهةٍ، وتجاربِ الاندماجِ الناجحةِ من جهةٍ أخرى. وعلى امتدادِ الولاياتِ المتحدة والمملكةِ المتحدة وألمانيا وإسبانيا وإيطاليا وروسيا وفرنسا والبرازيل وكندا، يمكن أن نلتقطَ ملامحَ مشتركة: تصاعدُ الإسلاموفوبيا والعنصرية، مقابل صعودِ أشكالٍ جديدةٍ من التنظيمِ المدنيّ وكتابةِ الذاكرةِ العربية في المنافي.
في الولاياتِ المتحدةِ الأمريكية، يعيش العربُ اليوم تحتَ ضغطٍ مزدوج: تصاعدُ الكراهية، واتساعُ هامشِ الصوتِ السياسيّ في الوقتِ نفسه. تقاريرُ منظماتٍ مدنية مثل مجلس العلاقات الأمريكية الإسلامية (CAIR) تشير إلى أنَّ حوادثَ التمييز والعنفِ ضد العرب والمسلمين بلغت مستوياتٍ قياسية سنة 2024 واستمرّ منحناها التصاعدي خلال 2025، في سياق الحرب على غزة وتصاعد خطاب الإسلاموفوبيا في الحملات الانتخابية.
في مدنٍ ذات كثافةٍ عربيةٍ مثل ديربورن في ميشيغن، خرجت الصحافةُ المحلية لتوثِّق محاولاتِ اليمين المتطرف “استفزاز” الأحياء العربية عبر مسيراتٍ وشعاراتٍ تحذّر من “أسلمة” أمريكا، لكنّ قادةَ الجالية ردّوا بتنظيمِ وقفاتٍ شعبيةٍ وجلساتِ استماعٍ في المجالس البلدية دفاعاً عن التعايش ورفضاً لشيطنةِ العرب والمسلمين.
وفي الخلفية، لا يزال عربُ أمريكا يتابعون بقلقٍ التصريحاتِ السياسية المثيرة للجدل، مثل دعواتِ بعض المرشحين لإعادة تشكيل السياسة الأمريكية في غزة أو تشديد القيود على دخول مواطني دولٍ عربية ومسلمة، وهو ما أثار موجةَ غضبٍ واسعة داخل الجالية العربية التي رأت في تلك التصريحاتِ تهديداً مباشراً لوجودها وحقوقها المدنية.
في المملكةِ المتحدة، تتقاطع حكايةُ المهاجر العربي مع ملفّ اللجوء والهجرة غير النظامية عبر القناة الإنجليزية. الحكومةُ البريطانية أعلنت خلال الأشهر الأخيرة حزمةَ إجراءاتٍ تُشدِّد شروطَ اللجوء وتُقلِّصُ من المساعداتِ الممنوحةِ لطالبي الحماية، بدعوى أن “الهجرة غير النظامية تمزِّق البلاد”، في تكرارٍ لخطابٍ أمنيّ يُحمِّلُ القواربَ القادمةَ من سواحل فرنسا مسؤوليةَ الأزمة.
في المقابل، تشهد بريطانيا نقاشاً محتدماً حول تعريف الإسلاموفوبيا بعد أن أظهرت بياناتٌ رسمية أنَّ 45٪ من جرائم الكراهية الدينية سنة 2025 استهدفت المسلمين، وهو رقم يعكسُ هشاشةَ الوضع بالنسبة للعرب والمسلمين في أحياءٍ كثيرة، ويدفع نواباً ومنظماتٍ إلى المطالبة بتبنّي تعريفٍ قانونيّ واضحٍ للإسلاموفوبيا كخطوةٍ أولى نحو حمايةِ الجاليات العربية والمسلمة.
في ألمانيا، يقف العربُ، خصوصاً السوريين، بين قصتين متناقضتين: قصةِ نجاحٍ فردية، وقصةِ تراجعٍ سياسيّ في خطابِ الاستقبال. بعد عشر سنواتٍ تقريباً على موجة 2015، تحكي تقارير صحفية عن عائلاتٍ سورية حصلت على الجنسية الألمانية ونجحت في سوق الشغل، مثل عائلةٍ استقرّت في برلين، تعمل الأم فيها مهندسة مدنية في وزارة النقل، وتتحدّثُ بناتها الألمانية بطلاقة، مع الاحتفاظ بجزءٍ من الذاكرة السورية في البيت.
لكنّ هذا الوجهَ المضيءَ يُقابله اليوم شدٌّ في الخطاب الرسمي، مع تصريحِ المستشار فريدريش ميرتس بأنّ “الحرب الأهلية في سوريا انتهت” وأنّ السوريين لم يعودوا يستحقون اللجوءَ على الأساس نفسِه، مع التلويحِ بخططٍ لإعادة مئات الآلاف “إلى وطنهم” والتشديد على إمكان ترحيل من يرفض العودة، وهو ما أثار انقساماً سياسياً حادّاً ومخاوفَ وسط مئات الآلاف من السوريين والعرب الذين بنوا حياتهم في ألمانيا.
في فرنسا، حيث الحضورُ المغاربي والعربي عريقٌ ومتجذِّر في الضواحي، تُظهِرُ التحليلاتُ أنَّ جدلَ الهجرة أكبرُ بكثيرٍ من أرقام الوافدين الجدد. فبياناتُ الهجرة تبقى نسبياً منخفضة، لكنّ الخطابَ السياسيّ والإعلاميّ يواصل تضخيم “خطر المهاجرين”، مع توظيفٍ مكثَّف لصورة “المسلم العربي” كخصمٍ رمزيّ للجمهورية.
تقارير جامعية وإعلامية حديثة تؤكد أن جوهر الأزمة هو عنصريةٌ متجذِّرة أكثر مما هو “طوفان مهاجرين”، وأنّ العربَ في الأحياء الشعبية يعانون من أشكالِ تمييزٍ في سوق الشغل والسكن والتعليم، رغم أنّ أجيالاً كاملة وُلدت في فرنسا ولم تعرف وطناً غيرها. هذه الهوّة بين “الانتماء اليومي” و”الاعتراف السياسي” تجعل وضعَ المهاجر العربي في فرنسا مُعلَّقاً بين سرديتين متنافرتين: سرديةِ الجذور المغاربية، وسرديةِ المواطنة الفرنسية الناقصة.
في إسبانيا، تبدو الصورةُ أكثرَ ارتباطاً بالإصلاحات القانونية. فقد دخلتْ حيِّز التنفيذ في ماي 2025 لائحةٌ جديدة للأجانب، أعادت تنظيمَ مساراتِ الدخولِ والإقامة، وسعت إلى مواءمة التشريعات الإسبانية مع المنظومة الأوروبية، مع التركيز على العمل والتكوين ولمّ الشمل كرافعاتٍ للاندماج.
هذه التغييرات تهمّ بشكلٍ مباشر المهاجرين من شمال إفريقيا والعالم العربي، خاصةً المغاربة الذين يشكّلون إحدى أكبر الجاليات في البلاد. وفي الوقت نفسه، لا تزال جزر الكناري تستقبل قواربَ مهاجرين بينهم شبابٌ عرب وقُصَّر غير مرفوقين، ما يفرض على مدريد سياساتٍ خاصةً لنقلِ المئاتِ منهم إلى البرِّ الرئيسي وتدبيرِ ملفاتهم في مراكزَ إيواءٍ على عجل.
أما إيطاليا، فتبقى إحدى البواباتِ الكبرى للمهاجرين القادمين عبر المتوسط، ومن بينهم أعدادٌ مهمة من العرب، سواء من السواحل التونسية أو الليبية أو من مصر وسوريا عبر مساراتٍ معقدة. تقاريرُ المفوضية السامية لشؤون اللاجئين تُصدِر أسبوعياً لوحاتٍ عن “الوضع في إيطاليا”، تكشف استمرار وصولِ قوارب جديدة، وتذكّر في الوقتِ نفسه بمخاطر الاستغلال في سوق العمل بالنسبة للمهاجرين غير النظاميين، وبمحاولات الحكومة معالجة أشكالِ سوء المعاملة في بعض القطاعات، مع تبنّي برامج أوروبية لمكافحة العنصرية.
في روسيا، حيث يشكِّل العربُ أقليةً عدديةً مقارنةً بجالياتٍ أخرى، إلا أنّ وضعهم تأثّر هو الآخر بالتشدّد المتزايد في ملف الهجرة. فقد أعلنت السلطات الروسية أنّها ضاعفت عملياتِ طردِ المهاجرين سنة 2024 لتصل إلى أكثر من 80 ألف حالة، في سياق تشديدِ الرقابة على الأجانب، خاصةً أولئك الذين تُنظَر إليهم باعتبارهم “غير مندمجين” أو “مخالفين لشروط الإقامة”.
هذا المناخُ جعل كثيراً من الطلبة والمهنيين الوافدين من المنطقة العربية يعيدون التفكير في “الخيار الروسي”، ويدرسون إمكان الانتقال إلى فضاءاتٍ أخرى، سواء في أوروبا أو الخليج، خاصةً مع تأثيرات الحرب في أوكرانيا والعقوبات الاقتصادية على سوق العمل والبحث العلمي.
في البرازيل، تختلف نبرةُ الخبر: فالهجرةُ العربية هناك قديمةٌ ومتجذِّرة، خصوصاً السورية واللبنانية، وقد تحوّل جزءٌ منها إلى قصّة نجاحٍ اقتصادية وثقافية. خلال 2025 برز مشروعٌ طموح لحفظ ذاكرة الهجرة العربية إلى البرازيل، عبر رقمنة الأرشيفات والوثائق والصور التي تروي رحلةَ المهاجرين الأوائل، بشراكةٍ بين مؤسّساتٍ برازيلية وجامعاتٍ لبنانية تُوفِّر معداتٍ متطورة وخبراتٍ تقنية.A
في السياق نفسه، تتواصل مبادراتٌ لإحياء “يوم الجالية العربية” والتذكير بالدور التاريخي الذي لعبه المهاجرون العرب في التجارة والسياسة والآداب في البرازيل، مع ظهور حركاتٍ شبابية تعمل على إعادة ربط الجيل الثالث والرابع بأصولهم عبر الحصول على الجنسية اللبنانية أو زيارة بلدان الأجداد والمشاركة في حملات دعمٍ إنسانية نحو الشرق الأوسط.
أما في كندا، فيتأرجح خبرُ المهاجر العربي بين ارتفاعٍ مقلق في جرائم الكراهية ومبادراتٍ رسميةٍ ومدنية لمواجهة الإسلاموفوبيا. تقاريرُ حديثة تؤكّد أنّ كندا شهدت منذ أكتوبر 2023 ارتفاعاً حادّاً في جرائم الكراهية ضد المسلمين وضد العرب والفلسطينيين، مع تسجيل زياداتٍ وصلت إلى 94٪ في الاعتداءات على المسلمين و52٪ في الجرائم ضد العرب وغرب آسيا، وفق بيانات رسمية وتحقيقات جامعية.
ردّاً على ذلك، أطلقت الحكومة الفدراليةُ برامجَ خاصةً لمكافحة الإسلاموفوبيا وتحسين وصول ضحايا جرائم الكراهية إلى العدالة، مع تعيينِ ممثِّلةٍ خاصة معنية بهذا الملف، وإصدار تقارير سنوية تقيّم جهود مكافحة الكراهية ضد المسلمين.
في المقابل، يتحرّك “المجتمع المدني العربي الكندي” عبر مؤسّساتٍ مثل المعهد العربي الكندي الذي أطلق مبادراتٍ لرصد أوضاع العرب في كندا، وتنظيم منتدياتٍ وطنية تحت عنوان “Arab Canadian Pulse”، مع إطلاق قوائم تكريمية مثل “30 عربياً تحت سن الثلاثين” للاحتفاء بالشباب العرب الذين برزوا في مجالات القانون والطب والفنون وريادة الأعمال، في محاولةٍ لبناء سرديةٍ إيجابية موازية لصورة “الضحية الدائمة”.
بين كلِّ هذه الجغرافيات، تبرز خيوطٌ مشتركة في خبرِ المهاجر العربي اليوم: تصاعدُ الإسلاموفوبيا وجرائمِ الكراهية في الولايات المتحدة وكندا وبريطانيا، الضغطُ السياسي في ألمانيا وفرنسا، هشاشةُ العابرين للمتوسط نحو إسبانيا وإيطاليا، تشدّدُ موسكو تجاه الأجانب، مقابل قصصٍ أقدم في البرازيل تحاول أن تحوِّل ذاكرةَ الهجرة إلى أرشيفٍ إنساني حيّ. في قلب هذه اللوحة، لا يظهر العربيّ المهاجر مجرد رقمٍ في إحصاءات الحدود، بل فاعلاً يحاول أن يكتب حكايته الخاصة: مرةً عبر تأسيس جمعياتٍ ورفع دعاوى قضائية ضد التمييز، ومرةً عبر انتزاع الجنسية وبناء مستقبلٍ مهنيّ لأبنائه، ومرةً ثالثة عبر إنقاذِ ما يمكن إنقاذه من ذاكرةِ الأجداد كي لا تضيعَ في زحام الخرائط الجديدة.
هذه الأخبار، المتناثرة بين قاراتٍ تسع، تقول لنا في النهاية إنّ سؤال الهجرة العربية لم يعد مجرّد “حركة عبور” من جنوبٍ إلى شمال، بل بات امتحاناً أخلاقياً وسياسياً لمجتمعات الاستقبال نفسها: هل تنظر إلى العربيّ كعاملٍ مؤقّت، أم كجزءٍ من قصتها الوطنية؟ وهل تملك الشجاعة لتفكّك خطاب الخوف والكراهية، وتفسح المجال لقصصٍ أخرى عن المعرفة والعمل والمواطنة المشتركة؟







0 التعليقات:
إرسال تعليق