في زمن كانت فيه الثورات تُقاد من الساحات وتُدار من المقرّات، خرج جيل جديد من رحم الشاشات، يحمل هاتفًا بدل المنشور الحزبي، وهاشتاغًا بدل البيان السياسي. جيل لا يعرف عالماً بلا إنترنت، ولا يثق إلا بما يبثّه بنفسه عبر "ريلز" أو "تيك توك" أو بث مباشر من غرفة صغيرة. إنه جيل Z، أو كما يسميه البعض: "السكان الأصليون للعصر الرقمي".
في نهاية التسعينيات، كانت المنتديات ومنصّات الدردشة مثل "ياهو ماسنجر" و"MSN" مختبرات هذا الجيل الأولى. هناك تعلّم التواصل والاختلاف والتمرّد. لكن مع دخول الألفية الثانية، تحول هذا التمرّد الرقمي إلى وعي اجتماعي.
عام 2010، بدأ هؤلاء
المراهقون يظهرون كقوة حقيقية في زمن "الفيسبوك" و"تويتر"، حيث
لم يعودوا مجرد مستهلكين للمعلومة، بل صانعين لها. صار الخبر يولد على الشاشة لا في
غرفة التحرير، وصارت الصورة أقوى من البيان.
بعد جائحة كورونا،
اكتشف العالم أن الإنترنت لم يعد ترفيهًا بل حياةً بديلة. ومعها، تغيّر كل شيء. حين
خرج طلاب فرنسا عام 2023 ضد قانون التقاعد، لم ينظّمهم حزب ولا نقابة، بل تطبيقات مثل
"سناب شات" و"تيك توك". في نيبال، أشعل قرار حظر وسائل التواصل
ثورة أطاحت بالحكومة. وفي مدغشقر، أسقط شباب بلا رايات حكومة كاملة.
ومن باريس إلى الدار
البيضاء، ولدت عبارة جديدة في الإعلام: "جيل Z ينتصر".
في المغرب، لم يكن
المشهد عادياً. وُلدت حركة "Gen Z 212" من وسم بسيط على تيك توك، لكن في أيام معدودة صارت الشوارع تموج بشباب
يطالبون بإصلاح التعليم والصحة ومحاربة الفساد.
لا أحزاب، لا قادة،
لا بيانات. فقط عقل جماعي ينسّق في غرف "ديسكورد" و"واتساب" مغلقة،
وقلب ينبض في الساحات.
في بيانهم الأول قالوا:
"لسنا ضد الوطن، نحن ضد من يهمل الوطن."
كانت جملة صغيرة، لكنها
قلبت قواعد اللعبة: لم يعد الشباب يثورون ضد الدولة، بل من أجل دولة تفهم لغتهم.
لم تعد الأنظمة تواجه
خصومًا يمكن تحديدهم. في الماضي كان القائد معروفًا، والمقر مكشوفًا. اليوم لا رأس
يُقطع ولا جسد يُسقط. فقط ملايين العقول المتصلة في شبكة واحدة تتحرك كالخلايا العصبية.
ردّ فعل الأنظمة؟ مراقبة
الإنترنت تحت شعار "الأمن الرقمي". أكثر من خمسين دولة فرضت قيودًا مؤقتة
أو رقابة على الإنترنت خلال احتجاجات شبابية.
لكن المفارقة أن السياسيين
أنفسهم بدأوا يتحدثون بلغة الجيل الجديد: رؤساء يفتحون حسابات على "تيك توك"،
وزراء يردون على الأسئلة في بث مباشر، وماكرون نفسه يحاور طلابه بالعامية خوفاً من
خسارتهم نهائياً.
جيل Z لا ينتظر خطب الجمع، بل ينتظر "ترند"
الجمعة. لا يتأثر بخطاب مطوّل، بل بمقطع ساخر مدته 30 ثانية.
وهنا دخلت على الخط
جماعات الإسلام السياسي التي حاولت اختطاف هذه الموجة، مستخدمة أدوات الجيل نفسه: المقاطع
القصيرة والمحتوى الساخر. لكن المفاجأة جاءت من المغرب، حين أعلن شباب "Gen Z
212" رفضهم
لأي وصاية دينية أو حزبية، قائلين: "لا أحد يتحدث باسمنا."
لحظة نادرة في التاريخ
العربي: جيل يرفض أن يكون أداة بيد أحد، ويريد فقط أن يُسمع صوته.
يسمّيه البعض
"جيل اللاانتماء"، لكنه في الحقيقة أكثر الأجيال انتماءً للوطن. لا يهمه
الشعار بقدر ما تهمه العدالة. لا يثق في الحزب، بل في الفكرة. لا ينتظر المخلّص، بل
يصنع الحلّ.
هو جيل يقرأ العالم
بلغة الخوارزميات، بينما الأنظمة ما تزال تكتب بلغة المراسلات الورقية.
فجوة زمنية بين من
يعيش بسرعة الضوء، ومن يسير بسرعة الأرشيف.
من جورجيا وأوكرانيا
في مطلع الألفية، إلى تونس والقاهرة في 2011، إلى هونغ كونغ وتشيلي في 2019، وصولاً
إلى المغرب في 2025... تغيّر شكل الثورة لا جوهرها.
الوسيلة تغيّرت: من
الورق إلى الشاشة، من الشعار إلى الهاشتاغ، من الحزب إلى الفرد.
لكن الهدف بقي كما
هو: أن يكون للإنسان صوته ومكانه.
جيل Z ليس ثائراً بالفوضى، بل بالذكاء. لا يسعى
إلى إسقاط العالم، بل إلى إعادة برمجته.
إنها ليست ثورة أحزاب
ولا انتفاضة أيديولوجيات، بل ثورة الخوارزميات، حيث يمكن لهاتف واحد أن يهز نظاماً
كاملاً.
في زمن كان يُقال فيه
إن "الكلمة أقوى من الرصاصة"، بات الهاشتاغ أقوى من الاثنين معاً.
جيل "Z212" لا ينتظر المستقبل هو نفسه المستقبل.
0 التعليقات:
إرسال تعليق