الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


الأحد، أكتوبر 19، 2025

الفلسفة الأخلاقية: بحث في معنى الخير والواجب والفضيلة: عبده حقي

 


منذ فجر الفكر الإنساني، ظلت الفلسفة الأخلاقية تتساءل عن ماهية الخير والشر، والعدل والظلم، والغاية التي ينبغي أن يتجه إليها الإنسان في حياته وسلوكه. فالأخلاق ليست مجرد قواعد اجتماعية تُفرض على الفرد، بل هي جوهر وجود الإنسان العاقل، وميزانه في التعامل مع ذاته والآخرين والعالم.

1. مدخل إلى مفهوم الفلسفة الأخلاقية

الفلسفة الأخلاقية أو "الإيتيقا" (Ethics) هي فرع من فروع الفلسفة يُعنى بتأمل الأسس التي تقوم عليها أفعالنا، وبالسؤال عن ما يجعل الفعل صائبًا أو خاطئًا. فهي تحاول الإجابة عن أسئلة وجودية عميقة مثل:

  • كيف يجب أن نعيش؟

  • ما الذي يجعل الحياة جديرة بأن تُعاش؟

  • هل توجد قيم أخلاقية مطلقة، أم أن الأخلاق نسبية تتغير باختلاف الثقافات؟

هذه الأسئلة لا تهدف إلى وضع قوانين جامدة، بل إلى تحريك الضمير الإنساني وتأطير التفكير النقدي حول ما نعتبره "خيرًا" أو "عدلاً".


2. أقسام الفلسفة الأخلاقية

يمكن تقسيم الفلسفة الأخلاقية إلى ثلاثة فروع أساسية: الأخلاق المعيارية، والأخلاق التطبيقية، وما وراء الأخلاق.

أ. الأخلاق المعيارية (Normative Ethics)

تسعى إلى تحديد القواعد العامة التي ينبغي أن تحكم أفعال الإنسان. ومن أبرز مدارسها:

  • النفعية (Utilitarianism):
    دعا إليها الفيلسوفان جيريمي بنثام وجون ستيوارت ميل، وتقوم على مبدأ "أعظم سعادة لأكبر عدد من الناس". أي أن الفعل الأخلاقي هو الذي يحقق المنفعة العامة ويقلل الألم. لكن هذه النظرية تُنتقد لأنها قد تبرر التضحية ببعض الأفراد إذا كانت النتيجة النهائية مفيدة للأغلبية.

  • الواجبية (Deontology):
    يمثلها إيمانويل كانط الذي رأى أن الأخلاق لا تُقاس بالنتائج بل بالنية والواجب. فالفعل الصالح هو ما يُؤدى بدافع احترام القانون الأخلاقي الكوني، لا بدافع المصلحة أو العاطفة. وعبّر عن ذلك بمبدئه الشهير:

    "اعمل بحيث تعامل الإنسانية في شخصك وفي شخص غيرك دائمًا كغاية، لا مجرد وسيلة."

  • أخلاق الفضيلة (Virtue Ethics):
    ترجع إلى أرسطو الذي ربط الأخلاق بتحقيق "السعادة" (Eudaimonia)، لا بمعناها الحسي بل باعتبارها اكتمالًا للوجود الإنساني. فالفضائل مثل الشجاعة والاعتدال والكرم هي ملكات تُكتسب بالممارسة والتربية، وهي التي تُمكّن الإنسان من بلوغ الحياة الجيدة.


ب. ما وراء الأخلاق (Meta-Ethics)

يهتم هذا الفرع بالسؤال عن طبيعة الأحكام الأخلاقية نفسها:
هل القيم الأخلاقية حقائق موضوعية مستقلة عن الإنسان؟ أم أنها مجرد تعبيرات عن أذواق ومشاعر فردية؟
يرى الموضوعيون الأخلاقيون أن الخير والشر حقائق قائمة بذاتها، بينما يذهب النسبويون إلى أن الأخلاق تختلف من ثقافة إلى أخرى، فلا وجود لقيم مطلقة. وقد حاول فلاسفة معاصرون مثل جورج مور وآير تحليل اللغة الأخلاقية ذاتها، معتبرين أن قولنا "هذا الفعل خير" هو في جوهره حكم عاطفي أو تعبيري لا أكثر.


ج. الأخلاق التطبيقية (Applied Ethics)

تتجلى هنا محاولات تطبيق المبادئ الأخلاقية على القضايا المعاصرة مثل البيئة، الطب، التكنولوجيا، الإعلام، والذكاء الاصطناعي.
ففي الأخلاق البيولوجية، تُطرح أسئلة حول مشروعية الإجهاض أو الاستنساخ أو الموت الرحيم.
وفي الأخلاق الرقمية، يثار الجدل حول حدود الخصوصية، وعدالة الخوارزميات، ومسؤولية الآلات الذكية.
إنها مرحلة تُعيد الفلسفة فيها ارتباطها بالحياة اليومية، وتجعلها شريكة في رسم ملامح المستقبل الإنساني.


3. التحولات الحديثة في الفلسفة الأخلاقية

عرفت الفلسفة الأخلاقية منذ القرن العشرين تحولات كبيرة نتيجة الأزمات التي مرّ بها العالم — من الحروب العالمية إلى الكوارث البيئية والرقمية. فظهر اتجاه الأخلاق الكونية التي تدعو إلى مسؤولية إنسانية جماعية تتجاوز الحدود القومية، كما نجد عند هانس يوناس الذي دعا إلى "مبدأ المسؤولية" تجاه الأجيال القادمة والبيئة.

كما برزت الأخلاق النسوية التي أعادت النظر في مركزية الرجل في الفكر الأخلاقي التقليدي، وأكدت على قيم العناية والتعاطف بدلًا من الهيمنة والعقلانية الجافة، كما نقرأ في أعمال كارول جيليغان ونيل نودنغز.

وفي العقود الأخيرة، دخلت الفلسفة الأخلاقية في حوار واسع مع التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي، إذ لم يعد السؤال يقتصر على الإنسان بل امتد إلى الآلة:
هل يمكن للذكاء الاصطناعي أن يتخذ قرارات أخلاقية؟ ومن يتحمل مسؤولية أفعاله؟
وهو ما يثير ما يُعرف اليوم بـ أخلاقيات الذكاء الاصطناعي، وهي من أكثر مجالات البحث تطورًا في الفلسفة المعاصرة.


4. الفلسفة الأخلاقية بين الفرد والمجتمع

ليست الأخلاق شأنًا فرديًا فقط، بل هي نظام اجتماعي شامل يحدد شكل العدالة والمواطنة والعيش المشترك.
وقد قدّم الفيلسوف الأمريكي جون رولز في كتابه نظرية العدالة (1971) تصورًا أخلاقيًا يقوم على "الإنصاف"، إذ تخيّل مجتمعًا يختار أفراده مبادئ العدالة دون معرفة مواقعهم الطبقية أو الاجتماعية، وهو ما سماه "حجاب الجهل".
بهذا التصور، حاول رولز إعادة التوازن بين الحرية والمساواة، بين الفرد والدولة، في زمن طغت فيه المصلحة الاقتصادية على القيم الإنسانية.

في المقابل، دعا الفيلسوف الكندي تشارلز تايلور إلى الاعتراف بالهويات الثقافية المتعددة في المجتمعات الحديثة، مؤكدًا أن الاعتراف بالآخر هو فعل أخلاقي لا يقل أهمية عن العدالة ذاتها.


5. الفلسفة الأخلاقية في العالم العربي والإسلامي

عرف الفكر الإسلامي بدوره نظامًا أخلاقيًا عميقًا جمع بين البعد الديني والإنساني والعقلي.
فقد اعتبر الفارابي أن المدينة الفاضلة تقوم على الفضيلة والعقل، بينما رأى ابن مسكويه أن تهذيب النفس هو أساس الأخلاق، وكتب في ذلك مؤلفه الشهير تهذيب الأخلاق وتطهير الأعراق.
أما الغزالي، فجمع بين المعرفة الدينية والتجربة الروحية، معتبرًا أن النية الصالحة هي جوهر الأخلاق.
وفي العصر الحديث، حاول مفكرون مثل طه عبد الرحمن تجديد الأخلاق الإسلامية في ضوء الفلسفة المعاصرة، معتبرًا أن الفعل الأخلاقي لا يتحقق إلا بالجمع بين الحرية والالتزام الروحي.


6. نحو فلسفة أخلاقية كونية

إن العالم اليوم، في ظل الأزمات البيئية والرقمية والحروب، يحتاج إلى إتيقا عالمية توازن بين التعددية الثقافية والقيم الإنسانية المشتركة. فكما يقول الفيلسوف الألماني يورغن هابرماس، لا يمكن بناء أخلاق كونية إلا عبر حوار عقلاني بين الثقافات، يقوم على التفاهم لا الإكراه، وعلى الإقناع لا القوة.

تتطلب الفلسفة الأخلاقية المعاصرة إذن وعيًا كونيًا يرى في كل إنسان "غاية في ذاته"، ويضع التكنولوجيا والسياسة والاقتصاد في خدمة الإنسان لا العكس. إنها دعوة إلى إعادة إنسنة العالم الذي بات مهددًا بالاغتراب والعنف الرقمي واللامبالاة.


7. خاتمة

الفلسفة الأخلاقية ليست ترفًا فكريًا، بل حاجة وجودية تمسّ جوهر الإنسان الحديث الذي تاه في زحمة السرعة والربح والتقنية. إنها سؤال دائم عن "كيف نعيش بكرامة؟" و"كيف نحيا في عالم مشترك دون أن نفقد إنسانيتنا؟".
ولعل أسمى ما يمكن أن تصل إليه الفلسفة الأخلاقية هو تحويل الفكر إلى سلوك، والمعرفة إلى ممارسة، والحرية إلى مسؤولية.

كما قال سقراط: "الحياة غير الممحّصة لا تستحق أن تُعاش".

وهكذا، تظل الفلسفة الأخلاقية امتحانًا دائمًا لإنسانيتنا، ومرآةً لضميرنا الجمعي، ودعوةً مفتوحة لأن نكون أفضل مما نحن عليه.

0 التعليقات: