الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


الأحد، أكتوبر 19، 2025

الفن الأسود في بومبيدو: حين تستعيد باريس ظلالها الإفريقية

 


في قلب العاصمة الفرنسية، حيث تتقاطع الذاكرة الاستعمارية مع أنوار الحداثة، يفتح مركز بومبيدو للفن الحديث أبوابه على معرض استثنائي بعنوان "Paris Noir"، يستعيد فيه الفن الأسود مكانته داخل تاريخ الفن العالمي بعد قرون من التهميش والنسيان. هذا المعرض، كما تؤكد مؤرخة الفن آن لافون في حوارها مع موقع La Vie des Idées، ليس مجرد حدث فني، بل هو لحظة فكرية
تعيد النظر في العلاقة المعقدة بين أوروبا وإفريقيا، بين المركز والهامش، وبين ما يُسمّى بـ"الفن الحديث" و"الفن الآخر".

من الهامش إلى الواجهة

تستعيد آن لافون بدايات الوعي الفرنسي بالفن الإفريقي، الذي ظل طويلاً خارج أسوار المتاحف الكبرى، يُعامل كحرفة أو كأثر إثنوغرافي أكثر من كونه تجربة جمالية خالصة. ففي ثمانينيات القرن الماضي، كان معرض Magiciens de la Terre عام 1989 بمثابة الشرارة الأولى لمحاولة كسر المركزية الغربية في الفن، عبر جمع فنانين من الشمال والجنوب في فضاء واحد. ومع ذلك، ظلّ الحضور الإفريقي محاطاً بنظرة استشراقية تصوّره في قالب "الساحر الغريب" لا الفنان المبدع.

تصحيح الصورة وإعادة الكتابة

في مطلع الألفية، بدأت معارض مثل "Africa Remix" (2005) بتصحيح المسار، فطرحت الفن الإفريقي باعتباره معاصراً وحداثياً، بعيداً عن التمثيلات الفولكلورية. ثم جاء معرض "Le Modèle Noir" (2019) في متحف أورسي ليعيد الاعتبار للنماذج السوداء التي ظهرت في لوحات عمالقة الفن الفرنسي مثل مانيه وإنغر وديلاكروا، من دون أن تُذكر أسماؤهم أو تُحترم هويتهم. كان ذلك خطوة نحو ما تسميه لافون بـ"التاريخ المضاد للفن"، أي ذلك التاريخ الموازي الذي يعيد رسم خريطة الجمال خارج الإطار الأوروبي الضيق.

"Paris Noir": الفن الأسود في قلب المتحف

يُعد معرض "Paris Noir" في بومبيدو 2025 تتويجاً لمسار طويل من النقد وإعادة الاعتراف. فالمعرض لا يكتفي بعرض أعمال لفنانين سود من إفريقيا والكاريبي، بل يرسم خريطة الوجود الأسود في باريس منذ بدايات القرن العشرين. من موسيقيي الجاز الذين ملأوا مقاهي مونمارتر بعد الحرب، إلى المثقفين القادمين من السنغال وجزر الأنتيل الذين أسّسوا تيار “الزنوجة” وأعادوا صياغة معنى الحرية في اللغة والفن.

تؤكد لافون أن هذا التحول يعكس إرادة مؤسساتية جديدة في فرنسا، تنزع إلى دمج الفن الأسود داخل السرد الوطني والعالمي، لا بوصفه استثناءً إثنياً بل بوصفه جزءاً أصيلاً من الحداثة نفسها. فالفن الأسود لم يعد يُقدَّم كموضوع إثنوغرافي في جناح جانبي، بل كتيار جمالي وفكري له لغته ومفاهيمه وأبطاله.

جدل المصطلح وتعدد المراكز

لكنّ آن لافون لا تُخفي حذرها من المصطلح ذاته: “الفن الأسود”. فالمفردة – كما تقول – تحمل في طياتها توتراً بين السياسة والجمال، بين الرغبة في الاعتراف والوقوع مجدداً في فخ التصنيف العرقي. وتدعو الباحثة إلى كتابة تاريخ فني عابر للقارات، يعترف بأن الحداثة لم تكن يوماً أوروبية خالصة، بل ثمرة تفاعلات طويلة بين داكار وباريس، بين هافانا ونيويورك، بين كينشاسا وبرلين.

نحو توازن جمالي جديد

في نهاية الحوار، تصف لافون هذا التحول بأنه “إعادة توازن جمالي” في المتاحف الغربية، حيث لم يعد الفن الأسود يُرى بوصفه هامشاً، بل بوصفه مرآة كونية لتعدد الإنسانية المعاصرة. فبومبيدو، الذي كان رمزاً للحداثة البيضاء في سبعينيات القرن الماضي، أصبح اليوم فضاءً لإعادة سرد التاريخ من منظور أفريقي وإنساني أوسع.

إن معرض "Paris Noir" لا يقدّم مجرد لوحات وتماثيل، بل يعرض سيرة مدن وأجيال وألوان. إنه يضع باريس أمام مرآتها السوداء لتكتشف أن الفن لا لون له إلا ضوء الحرية.


0 التعليقات: