في خطوة جديدة تؤكد تسارع التحول نحو البحث الذكي، أعلنت شركة «غوغل» عن توسيع نطاق خدمتها الجديدة القائمة على الذكاء الاصطناعي في البحث لتشمل أكثر من أربعين دولة ومنطقة حول العالم، بعد أن كانت مقتصرة على أسواق محدودة مثل الولايات المتحدة والمملكة المتحدة والهند. ويتيح هذا النظام للمستخدمين طرح الأسئلة بلغة طبيعية مطوّلة والحصول على إجابات فورية وشاملة من دون الحاجة إلى تصفّح المواقع كما كان الحال في السابق.
هذا التطور التقني، الذي يبدو في ظاهره إنجازًا يسهل الوصول إلى المعرفة، أثار مخاوف عميقة لدى ناشري الصحف والمواقع الإخبارية، إذ يخشون أن يؤدي تقديم الإجابات المباشرة من قبل الذكاء الاصطناعي إلى تراجع الزيارات لمواقعهم الإلكترونية، ما ينعكس سلبًا على الإعلانات التي تُعدّ المصدر الرئيسي لدخلهم. فكلما حصل المستخدم على مبتغاه داخل صفحة نتائج البحث، قلّت احتمالية أن يزور المصدر الأصلي للمعلومة، وهو ما قد يهدد مستقبل الإعلام الرقمي برمّته.
وتحاول «غوغل» في المقابل طمأنة شركائها من الناشرين بالتأكيد على أن المصادر الموثوقة ستظلّ تحظى بالاهتمام، وأن الروابط المدرجة في الإجابات الذكية ما زالت تساهم في توجيه المستخدمين إلى المواقع الأصلية. غير أنّ خبراء الإعلام يرون أنّ هذه الطمأنة غير كافية، لأن التغيير في طريقة تفاعل المستخدمين مع المحتوى سيؤدي حتمًا إلى إعادة توزيع حركة المرور الرقمية على نحو غير مسبوق، مما قد يعيد تشكيل مشهد الإعلام العالمي.
من جهة أخرى، يشير محلّلون إلى أنّ النموذج الإعلاني التقليدي الذي يعتمد على عدد الزيارات والنقرات يواجه خطر الزوال، ما يفرض على وسائل الإعلام البحث عن بدائل تمويل جديدة مثل الاشتراكات المدفوعة أو المحتوى المتميز أو الشراكات الاستراتيجية مع منصات رقمية كبرى. فالرهان لم يعد فقط على نقل الأخبار، بل على تقديم قيمة مضافة وتحليل معمّق لا يمكن لخوارزميات الذكاء الاصطناعي أن تستنسخه بسهولة.
وتؤكد التجارب الإعلامية الأخيرة أنّ المصداقية والتحليل الميداني والتحقيقات الأصلية هي العناصر التي ستضمن بقاء المؤسسات الصحفية في عصر الذكاء الاصطناعي. فحين يصبح الوصول إلى المعلومة آليًّا وسريعًا، ستبقى الحاجة قائمة إلى الصحفي الذي يفسّر ويحلّل ويقدّم خلفيات الحدث بوعي إنساني وخبرة مهنية.
أما في العالم العربي، فإن التحدي يتضاعف. فالمؤسسات الإعلامية العربية مطالَبة اليوم بمواكبة التطورات التقنية العالمية، دون التفريط في خصوصية الخطاب الثقافي والإعلامي المحلي. إذ إن غياب الاستثمار في التكنولوجيا والبيانات سيجعل هذه المؤسسات أكثر هشاشة أمام هيمنة المنصات العالمية، ويهدد بتقليص حضور المحتوى العربي في الفضاء الرقمي الجديد.
إنّ توسع «غوغل» في استخدام الذكاء الاصطناعي في البحث لا يُعدّ مجرد تطور تقني فحسب، بل تحولًا بنيويًا في منظومة إنتاج المعرفة وتوزيعها. فبينما يسعى المستخدم إلى الحصول على المعلومة في أقصر وقت، يجد الإعلام نفسه مطالبًا بإعادة تعريف دوره ووظيفته في زمن الآلة الذكية. وبين الحذر والأمل، يقف الناشرون أمام مفترق طرق: إمّا التكيّف مع المستقبل، أو البقاء أسرى نموذج إعلامي يحتضر ببطء.
0 التعليقات:
إرسال تعليق