ما إن أفتح نافذة الأخبار الثقافية والفنية في هذا الصباح، حتى أشعر بأنني أقف أمام فسيفساء تتناثر قطعها في كل اتجاه. عناوين تتوالد، فنون تتقاطع، مبادرات تُعلن عن نفسها مثل شرارات في ليل طويل؛ ومع ذلك، لا يكاد القارئ يلتقط خيطاً ناظماً بينها، لأن الإيقاع أسرع من قدرة العين على المتابعة، وأقرب إلى سيولٍ إعلامية تجرف كل شيء في طريقها. لكن هذه الكثافة ليست مجرد ضوضاء، بل هي علامة على أن الثقافة ــ على الرغم من كل شيء ــ ما تزال حيّة، تتنفس، وتبحث عن أشكال جديدة لتعيد تعريف ذاتها في عالم يتبدّل كل ثانية.
من بين المشاهد اللافتة التي تتكرر في الآونة الأخيرة، تقاطع الفن التقليدي مع الذكاء الاصطناعي. لم يعد الإبداع يعيش في برجٍ عاجي، ولا يعود إلى الماضي بوصفه مادة جامدة، بل يرسم جسوراً جديدة بين الذاكرة والآلة، بين الحرفة والبرمجة، بين الوجدان الإنساني والدقة الرقمية. أعمال فنية كثيرة تُعرض اليوم بوصفها تجارب هجينة: قفطان مغربي مرسوم بخوارزميات، لوحة زيتية تتدخل فيها يد برنامج ذكي، قصيدة تُعاد صياغتها عبر مولّد لغوي يعيد ترتيب الإيقاع والصور، وموسيقى إلكترونية تتكئ على جذور إفريقية وأندلسية في آن.
هذه الموجة ليست مجرد موضة عابرة؛ إنها تؤسس لمشهد ثقافي جديد يضع الإبداع في قلب التحول التكنولوجي. لكن السؤال الذي يبدأ في التشكّل داخل ذهن القارئ والكاتب معاً هو: هل ما يزال الفن فنّاً حين يصبح جزءاً من معادلاتٍ ومعالجات رقمية؟ وهل تفقد الهوية الثقافية وزنها حين ترتدي ثوباً افتراضياً قد يُعاد تشكيله بعدد لا حصر له من الاحتمالات؟
ربما لا تكمن الإجابة في رفض التقنية أو تبنّيها، بل في القدرة على ترويضها، على جعلها امتداداً للإنسان لا بديلاً عنه. الإبداع ــ في جوهره ــ حاجة روحية قبل أن يكون مهارة أو مهنة. وما دامت الروح تتدخل في اختيار اللون، في تركيب الصورة، في رسم الحركة، فإن التقنية ستبقى أداة، مهما بلغت قوتها.
وفي الجانب الآخر من هذا المشهد المحموم، تبرز لحظات احتفاء بالكلمة المكتوبة. أمسية شعرية هنا، تكريم لكاتبة هناك، صدور ديوان أو مجموعة قصصية أو سيرة ذاتية. هذه المناسبات تبدو صغيرة في ظاهرها، لكنها تحمل رسالة واضحة: الأدب ما يزال يُشعل المصابيح في طريقٍ يزداد عتمة. الكلمات لا تزال قادرة على مقاومة الزمن، على ترميم ما تكسّره صدمة الأخبار السريعة.
تكريم شاعر أو شاعرة اليوم ليس مجرّد احتفال بروح فردية، بل هو دفاع عن الكتابة ذاتها؛ دفاع عن الفعل الهادئ في مواجهة الضجيج، وعن القدرة على ترتيب الفوضى في جملة، وعن تلك المسافة التي يقطعها الكاتب بين الفكرة ولغتها، بين الصمت وصوته.
ولعلّ ما يزيد هذه الاحتفالات جمالاً هو أنها تُذكّرنا بأن الثقافة ليست صناعة آلية، بل تراكم تاريخي، وأن الشاعر الذي تُضاء لأجله القاعة هو امتداد لسلسلة طويلة حملت القصيدة من الفم إلى الرقّ، ومن الرقّ إلى الورق، ومن الورق إلى الشاشة.
لكن أمام هذا الغنى الظاهر، يتسرّب قلقٌ صامت. هل تحوّلت الثقافة إلى مجرد «عناوين» تنجرف سريعاً عبر موجات التواصل؟ هل ما نقرؤه اليوم يشبه ما نعيشه حقاً؟ أم أننا أصبحنا أسرى “التلخيص” المستمر: عنوانٌ يُتداول، خبرٌ يُنسى، مادةٌ تختفي خلف موجة أحدث؟
المشهد الثقافي في العالم العربي، كما في المغرب وإفريقيا والغرب، يشهد انفجاراً في عدد الفعاليات والإصدارات والمشاريع الفنية، لكنه يشهد في الوقت نفسه تقلصاً في مساحة القراءة العميقة. إنها مفارقة الزمن الرقمي: وفرةٌ في المواد، ندرة في التأمل.
وهذا يفرض سؤالاً على المثقف: هل يكتفي بأن يكون "مستهلكاً" لهذه العناوين؟ أم أنه مطالب بأن يكون قارئاً فاحصاً يحفر وراء السطح؟ وهل تكون الكتابة اليوم نوعاً من المقاومة، مقاومة للسرعة، للفوضى، للتشظي؟
تتقاطع أيضاً، في خريطة الواقع الثقافي، المبادرات الاجتماعية والفنية التي تنبثق من الهوامش. مهرجانات صغيرة في مدن بعيدة عن المركز، ورش للفنون الرقمية في أحياء شبابية، عروض مسرحية تجريبية بلا دعم مؤسسي، فنانات شابات يُدخلن فنون الفيديو والرسم التوليدي إلى فضاءات لم تكن تعرفها من قبل.
هذا التنوع ليس مجرد ترف، بل هو دليل على أن الثقافة لم تعد محصورة في المركز، وأن الهامش صار ينتج، يبتكر، ويضغط نحو تجديد الخطاب الثقافي. فكل تجربة صغيرة تُعلن أن الفن ليس حكراً على العاصمة ولا على الصالات الكبرى، بل يمكن أن يولد في مدرسة عمومية، أو مقهى شعبي، أو فضاء افتراضي مفتوح.
وفي ظل هذه التحولات، يتغير كذلك دور الفن: فلم يعد مجرد تمثيل للجمال، بل أصبح سؤالاً حول المستقبل. الأعمال الفنية الجديدة تحمل قلقاً وجودياً: إلى أين نتجه؟ ماذا يعني أن تكون إنساناً في عالم تحكمه الخوارزميات؟ هل تتلاشى الذاكرة أم تعيد التقنية تركيبها؟ وهل ينقذ الفن الإنسان من غربته أم يضاعفها؟
في القلب من هذه الأسئلة، يتقدّم الكاتب والمثقف ليعيد تشكيل دوره. لم يعد مطلوباً منه أن يصف الواقع فحسب، بل صار مطالباً بأن يقرأه، يحلله، يكشف طبقاته العميقة. الكتابة اليوم ليست تعليقاً على حدث، بل محاولة لفهمه في سياقه الأوسع: سياق الهوية، التاريخ، الجغرافيا، الاقتصاد، وتكنولوجيا المستقبل.
ولأن الثقافة تسير فوق أرضٍ تهتز باستمرار، فإن الكاتب مدعو إلى بناء جسور بين الأزمنة: أن يحمل الماضي دون أن يتحوّل إلى وزن، وأن يستقبل المستقبل دون أن يتحوّل إلى فوضى.
وربما هنا تكمن خصوصية اللحظة الراهنة: نحن نعيش في زمن تذوب فيه الحدود بين الأنواع الفنية، بين الواقعي والافتراضي، بين النص والصورة، بين الفنان والجمهور. أصبحت التجربة الفنية أكثر تشاركية، وأكثر هشاشة، وأكثر مخاطرة.
لكن هذه الهشاشة هي نفسها التي تمنح الثقافة قوتها: فالكتابة التي تنشأ في هذا الزمن، إن كانت صادقة، تصبح قادرة على الإمساك بالعابر، بتسجيل التحولات، وبصنع ذاكرة جماعية لا تستطيع الخوارزميات وحدها تسجيلها.
يستمر المشهد الثقافي اليوم في طرح الأسئلة أكثر مما يقدم الأجوبة. وسواء تعلق الأمر بتجارب توظف الذكاء الاصطناعي، أو باحتفالات شعرية تقليدية، أو بمبادرات فنية شبابية، أو بإصدارات نقدية جديدة، تبقى الحقيقة الأعمق أن الثقافة تتحرك في فضاء تتسارع فيه كل المتغيرات.
ورغم ذلك، ما تزال قادرة على أن تصنع "نَفَساً" خاصاً بها؛ نَفَساً يعيد التوازن وسط العاصفة. فالثقافة ليست مجرد أخبار، وليست ديكوراً اجتماعياً، بل هي الشكل الذي نحاول به أن نفهم أنفسنا، أن نعيد ترتيب العالم، وأن نمنح لحياتنا معنى يتجاوز اليومي والعابر.
في النهاية، يبدو المشهد الثقافي وكأنه نهرٌ هائج: تتقاطع فيه العواصف والتجارب، الأصوات القديمة والجديدة، المخاوف والآمال. لكن وسط هذا التدفق، يظل هناك خيط واحد لا ينقطع: حاجة الإنسان إلى أن يروي حكايته.
ما دامت هذه الحاجة قائمة، فالثقافة بخير.
وما دام الكاتب قادراً على تحويل الفوضى إلى معنى، فإن المستقبل — مهما بدا غامضاً — سيجد لغته، وصورته، وصوته.







0 التعليقات:
إرسال تعليق