الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


إعلانات أفقية

السبت، نوفمبر 15، 2025

قراءة نقدية في كتاب «Homo Ludens» ليوهان هويزينغا ترجمة عبده حقي


 يُعدّ كتاب Homo Ludens (الإنسان اللاعب)، الصادر عام 1938، أحد أكثر الأعمال تأثيراً في الدراسات الثقافية والأنثروبولوجية في القرن العشرين. فقد قدّم مؤلفه، الفيلسوف والمؤرخ الهولندي يوهان هويزينغا، أطروحة جريئة مفادها أنّ اللعب ليس مجرد نشاط ترفيهي، بل هو البذرة الأولى التي نشأت منها الثقافة الإنسانية بكل تجلياتها: القانون، الطقوس، الفن، اللغة، وحتى الحرب. بهذا الطرح، يقلب هويزينغا كثيراً من المسلّمات، ويمنح لما هو مُهمَل أو يُنظر إليه بوصفه “غير جدي” قيمة تأسيسية.

أولاً: اللعبة بوصفها بنية للوجود الإنساني

ينطلق هويزينغا من تعريف واسع لمفهوم اللعب، فهو يعتبره فعلاً حراً لا يخضع للإكراه، يقع خارج دائرة الضرورة البيولوجية، لكنه في الوقت نفسه ينطوي على قواعد صارمة، ومساحة رمزية خاصة، وزمن محدّد. هذه الخصائص تجعل اللعب، من منظور الكاتب، أشبه بفضاء موازٍ للواقع، لكنه يظل مؤثراً فيه، وموجهاً له.

ويؤكد هويزينغا أن اللعب سابق للثقافة وليس ناتجاً عنها؛ فالحيوانات تمارس اللعب قبل الإنسان، ولكن الإنسان هو الوحيد الذي حوَّل اللعب إلى منظومة رمزية تُنتج القيم والمعاني والهويات الاجتماعية. هنا تظهر قوة أطروحة الإنسان اللاعب: فهو لا يقول فقط إن الإنسان يلعب، بل يقول إن الإنسان يصبح إنساناً من خلال اللعب.

ثانياً: اللعب والطقس والدين… لحظة الميلاد الأولى للرموز

يمنح هويزينغا مساحة كبيرة في كتابه لتحليل الطقوس الدينية. فالاحتفال، والتطهير، والتضحية، والرقص الجماعي، كلها بالنسبة له ألعابٌ مُقنَّنة تقوم على الإيهام، والتجسيد، وخلق عالم رمزي مؤقت. فالطقس ــ بصفته فعلاً خارج الزمن العادي ــ يشبه بدقّة مساحة اللعب حيث ينسحب الواقع ليترك مكانه لنظام رمزي يُمارَس وفق قواعد خاصة.

بهذا المعنى، تظهر القداسة نفسها بوصفها شكلاً من اللعب، لا من حيث إنها غير جادة، بل من حيث إنها فعالية رمزية تقوم على القاعدة، والمحاكاة، وتكرار الأدوار.

ثالثاً: اللعب والفن… الجمالية بوصفها منافسة الرموز

تأثير اللعب في الفنون يحتل موقعاً مركزياً في الكتاب. فالشعر، والمسرح، والموسيقى، كلها تقوم على محاكاة منظمة، وعلى خلق متخيل متفق عليه. يرى هويزينغا أن الشعر القديم، خاصة الملاحم والأساطير، لم يكن منفصلاً عن المنافسة والألعاب الاحتفالية، بل كان جزءاً من فضاء اللعب الذي يجمع بين المهارة والمتعة والطقس.

الفنان، في تصور هويزينغا، هو لاعب بامتياز: يخترع عالماً ثم يلتزم بقواعده الداخلية. ولذلك اعتبر الكتاب أنّ جميع الإبداع هو لعبة ذات قواعد، وأنّ التذوّق الجمالي نفسه شكل من أشكال اللعب.

رابعاً: اللعب والقانون… اللعبة التي تصبح مؤسسة

أحد أهم إسهامات هويزينغا يتمثل في إرجاع أصل القانون إلى اللعب. فالقضاة في الحضارات القديمة كانوا يُنتخبون أو يُختارون عبر منافسات طقسية، والمحكمة ذاتها فضاء مغلق بقواعد دقيقة، وحضورها الاجتماعي قائم على التجسيد الرمزي للعدالة.

وبحسب الكاتب، فإن الصراع القانوني بين طرفين يشبه إلى حد كبير مباراة لها قواعد وفرص متكافئة، والفائز فيها يُحدد عبر قواعد متفق عليها من قبل المجتمع.

خامساً: اللعب والحرب… الوجه الأكثر التباساً

يُفرد هويزينغا فصولاً عميقة لتحليل الحرب، معتبراً أنها انبثقت أيضاً من روح اللعب، لكنها لعب مُفسد عندما يتجاوز حدوده ويصبح تدميراً. فالحرب التقليدية كانت محكومة بشرف القتال وقواعد الفروسية، أما الحرب الحديثة ــ كما يلاحظ في سياق الحرب العالمية الثانية ــ فقد فقدت عنصر “اللعب الشريف”، وأصبحت آلة تقنية عدوانية لا قواعد لها.

ومن هنا يستنتج أن اللعب يمكن أن يتحول من طقس رمزي إلى عنف مطلق إذا انفصل عن قواعده.

سادساً: نقد أطروحة هويزينغا

على الرغم من القيمة الهائلة لكتاب Homo Ludens، إلا أن أطروحاته ليست بمنأى عن النقد:

1 ــ المبالغة في مركزية اللعب

يرى بعض النقاد أن هويزينغا بالغ في جعل اللعب الأصلَ الوحيد للثقافة، متجاهلاً عوامل أخرى مثل الاقتصاد، والدين، والصراع الطبقي، والحاجات البيولوجية.

2 ــ تعميمات أنثروبولوجية واسعة

بعض مقارباته لا تستند إلى بحوث ميدانية تفصيلية، بل إلى أمثلة تاريخية عامة، ما يجعل نظريته عرضة للنقاش.

3 ــ التوتر بين “اللعب المبدع” و“اللعب المدمّر”

فكرة أن الحرب لعبة، رغم كونها استعارة تحليلية، تظل إشكالية أخلاقياً، لأنها تخفّف من فظاعة العنف.

ومع ذلك، يبقى الكتاب عملاً تأسيسياً فتح الباب لاحقاً أمام نظريات اللعب عند رولان بارت وروجر كايلوا، وصولاً إلى تحليلات الألعاب الرقمية اليوم.

سابعاً: راهنية الكتاب في عصر الألعاب الرقمية

لم يكن هويزينغا يتخيّل ظهور ألعاب الفيديو والواقع الافتراضي والميتافيرس، لكن أطروحته حول اللعب كبنية ثقافية أصبحت اليوم أكثر حضوراً من أي وقت مضى. فالإنسان المعاصر يقضي ساعات طويلة في فضاءات لعب رقمية لها قواعد، واقتصاد، ومجتمع، وهو ما يؤكد حدس هويزينغا بأن اللعب ليس نشاطاً هامشياً، بل قوة تشكيلية للهوية والثقافة والسياسة.

بل يمكن القول إن “الإنسان الرقمي” اليوم هو امتداد مباشر لـ “الإنسان اللاعب” الذي تحدث عنه قبل قرن.

خاتمة

يظل كتاب Homo Ludens واحداً من أهم الكتب التي حاولت تفسير أصل الثقافة الإنسانية عبر مدخل غير مألوف: اللعب. وبرغم الجدل الذي أثاره، فإن قوته تكمن في قدرته على إعادة توجيه أسئلتنا حول الفن، والدين، والقانون، واللغة، بوصفها كلها امتداداً لفعل إنساني بدائي هو اللعب.

إنه كتاب يكشف أن الإنسان لا يكف عن الابتكار والخلق إلا عندما يفقد “روح اللعب”، أي تلك المساحة التي تلتقي فيها الحرية بالنظام، والخيال بالقواعد، والرمز بالهوية. ولهذا يبقى Homo Ludens عملاً مرجعياً، ليس فقط في الأنثروبولوجيا، بل في فهم الإنسان نفسه.


0 التعليقات: