في الوقت الذي يتحدث فيه العالم عن الذكاء الاصطناعي وعن الأزمات السياسية المتسارعة، جاء حفل جوائز المركز الدولي للصحافيين ICFJ لعام 2025 في واشنطن ليقدّم مشهداً مركّباً يتجاوز مجرد الاحتفاء بالأسماء اللامعة. بدا الحفل في ظاهره كرنفالاً عالمياً للصحافة، لكنه في العمق كان تشريحاً دقيقاً لحال المهنة، وقراءة غير معلنة لخرائط القلق المهني والسياسي التي تحاصر الصحافيين في كل القارات.
لقد تابعت هذا الحدث وأنا أتساءل: هل نحن أمام جوائز أم أمام مرآة تضع الصحافة أمام نفسها؟ وأي مستقبل ينتظر مهنة تتحول من سلطة رابعة إلى جبهة مواجهة مفتوحة مع الاستبداد والتضليل والخوارزميات؟
ليستر هولت… حين يصبح الثناء تذكيراً بالخطر
تكريم ليستر هولت، مقدم برامج NBC News وأحد أكثر الوجوه التلفزيونية ثقة في الولايات المتحدة، لم يكن مجرد اعتراف بمسار ناجح. كانت كلمته القصيرة، التي ألقاها عبر فيديو لغيابه عن الحفل، أشبه بجرس إنذار. قال هولت: “نخضع لاختبار ضغط… لكن التزامنا بالحقيقة لن ينكسر.”
هذا النوع من الخطاب لم يكن سائداً قبل عقد من الزمن. الصحافيون الأميركيون كانوا يتحدثون من موقع القوة، أما اليوم فهم يتحدثون من موقع الدفاع. يشعرون بأن النموذج التقليدي للصحافة الأميركية يتداعى: الجمهور يهاجر، المؤسسات تضعف، والخوارزميات تستولي على الفضاء العام.
الأسوأ أن “موثوقية الخبر” لم تعد بديهية، وغاب يقين ما بعد ووترغيت ليحلّ مكانه عالم ضبابي لا يخضع لقواعد واضحة.
في كلمات هولت، شعرت بأن الصحافة اليوم لا تحتاج إلى الاحتفاء بقدر ما تحتاج إلى تثبيت وجودها في عالم يشكك فيها كل يوم.
سيزار باتيس… الصحافي الذي هرب جسده وبقي صوته
أما قصة سيزار باتيس من فنزويلا، فليست مجرد حكاية صحافي هارب من تهديدات سياسية. إنها قصة مهنة يتم تهجيرها من أوطانها. يعمل باتيس اليوم من المنفى في فلوريدا، لكنه لا يزال يدير منصة El Pitazo التي تصل إلى أفقر مناطق فنزويلا وأكثرها عزلة.
حين قال: “قد تُهاجَم الصحافة، لكنها لا تُهزَم”، شعرت أن المنفى لم يعد مجرد عقوبة سياسية، بل أصبح وظيفة صحافية جديدة، ومكاناً تُنتج فيه الحقيقة بعيداً عن القمع المحلي.
الصحافي المنفي اليوم ليس ناقلاً للخبر فحسب؛ إنه أيضاً مرمّم للذاكرة الجماعية في بلد يحاول محوها.
وما يحدث في فنزويلا يحدث في دول عربية وإفريقية عديدة: صحافة تعيش خارج جغرافيتها لكنها تتشبث بجمهورها من وراء الحدود.
فيليب أوباجي… الصحافة الإفريقية على خطوط النار
تكريم الصحافي النيجيري فيليب أوباجي جونيور، مراسل The Daily Beast، يكشف الوجه الأكثر خطورة للمهنة. هذا الرجل يحقق في الجرائم والفظاعات التي ترتكبها الجماعات شبه العسكرية الروسية في إفريقيا، خصوصاً في المناطق التي تختلط فيها الجغرافيا بالنفوذ الأجنبي والانهيار الأمني.
أوباجي أهدى جائزته لثلاثة صحافيين روس قتلوا عام 2018 أثناء التحقيق في نشاط مجموعة فاغنر. هذا الإهداء وحده يختصر العولمة الدموية للصحافة:
القاتل والضحية والصحافي المستهدف… كلهم يتحركون عبر الحدود.
لم تعد الصحافة الإفريقية محلية. إنها مواجهة مباشرة مع لاعبين دوليين، مع مناجم الذهب، مع الجماعات المسلحة، ومع شبكات نفوذ خارجة عن القانون.
وهنا، يصبح الخبر ليس نقلاً للواقع، بل اختباراً للبقاء.
النموذج الأميركي المكسور… وإعادة تعريف دور الصحافي
النقاش الذي جمع أودي كورنيش وخوسيه دياث–بالارت كان صريحاً إلى حد الصدمة. قالت كورنيش إن نموذج ما بعد ووترغيت قد تحطم. هذا اعتراف بأن الزمن الذي كان فيه تسريب واحد يهزّ الكونغرس قد انتهى.
اليوم، التسريب يصبح “ترنداً” لبضع ساعات، ثم يُدفن تحت ضجيج الأخبار المتلاحقة.
أما دياث–بالارت فذكر بحقيقة قلما نتوقف عندها:
الجمهور الهشّ – الفقراء، المهاجرون، الأقليات – لا يجد من يسمع صوته.
وهذا يحمّل الصحافي مسؤولية أخلاقية أكبر من مسؤولية نقل الأخبار:
إنه مُطالَب بأن يكون ممثلاً لهذه الفئات، جسراً بينها وبين القرار السياسي، لا مجرد ناقل محايد.
تساءلتُ وأنا أتابع هذا الحوار: هل نحن أمام صحافي جديد؟ صحافي لا تكفيه المهنية التقنية، بل يحتاج أيضاً إلى حسّ اجتماعي وتاريخي وأخلاقي؟
الذكاء الاصطناعي… نهاية الصحافة أم بداية تحولها؟
لا يمكن تجاهل فكرة الذكاء الاصطناعي التي حضرت بقوة في مداخلات الحفل. صحيح أن ثمة خوفاً من قدرة الآلات على إنتاج الأخبار، لكن المثير أن كورنيش عبّرت عن ثقتها بالجيل الجديد الذي يعتبر الحقيقة “compliment”؛ جملة يردّدها الشباب اليوم حين يقولون: facts.
قد يبدو هذا بسيطاً، لكنه في الحقيقة إعلان عن بدء اقتصاد جديد للثقة، اقتصاد يصبح فيه الخبر الموثق عملة نادرة، والصحافي مدققاً لا مجرد راوٍ.
ربما يفرض الذكاء الاصطناعي نهاية بعض الوظائف، لكنه لن يلغي دور الإنسان في صناعة المعنى، في قراءة السياق، وفي مساءلة السلطة.
فالذكاء الاصطناعي قد يكتب قصة، لكنه لا يستطيع أن يخاطر بحياته من أجل مصدر أو مجتمع.
ICFJ+… من الصحافة إلى “الذكاء المدني”
من المفاهيم المبتكرة التي برزت خلال الحفل فكرة “الذكاء المدني”، التي تجمع بين الصحافة والبيانات والتقنية والمجتمع المدني. إنها محاولة لبناء صحافة جديدة تتجاوز نقل الحقيقة إلى تفسيرها وتفعيلها.
التعاون بين ICFJ وشركائه التقنيين يعكس توجهاً نحو إعلام مبني على البيانات والتحليل، قادر على مواجهة التضليل الذي ينتشر بسرعة تفوق قدرة الصحافيين التقليديين على اللحاق به.
هذا ليس مشروعاً إعلامياً بقدر ما هو إعادة تعريف لوظيفة الصحافة في القرن الحادي والعشرين.
ختاماً: دروس من حفلة جوائز ليست مجرد حفلة
وأنا أكتب هذه السطور، أستعيد صور المكرمين وأصواتهم. لم أرَ في هذا الحفل وجوهاً تبتسم للكاميرات بقدر ما رأيت شجاعة، وشيئاً من الحزن، وكثيراً من الإصرار.
الرسالة التي خرجت بها واضحة:
الصحافة اليوم ليست مهنة. إنها معركة.
معركة ضد الاستبداد، ضد التضليل، ضد المال الفاسد، وضد الخوارزميات التي تخفي الحقيقة تحت جبال من الضوضاء.
لكنها أيضاً معركة من أجل الناس:
— من أجل من لا صوت لهم،
— من أجل من يعيشون في الهامش،
— من أجل من يواجهون القمع دون أن يملكوا وسيلة للدفاع عن أنفسهم.
جوائز ICFJ 2025 لم تُجب عن سؤال مستقبل الصحافة، لكنها أعطتنا صورة واضحة عن طريقها الوحيد الممكن:
أن تبقى الصحافة حرّة،
ولو كانت بلا وطن.
أن تبقى صادقة،
ولو أصبح العالم أكثر كذباً.
أن تبقى شجاعة،
ولو صار الخوف سيد الموقف.








0 التعليقات:
إرسال تعليق