الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


إعلانات أفقية

الجمعة، نوفمبر 14، 2025

الفن بين التعريف وإشكالية النقد الأخلاقي: عبده حقي

 


يظلّ الفن أحد أكثر الظواهر الإنسانية استعصاءً على التحديد. فمنذ الإغريق إلى الفلاسفة المعاصرين، يتأرجح مفهوم الفن بين كونه محاكاةً للعالم، أو خلقًا لعوالم بديلة، أو فعلًا رمزيًا يترجم ما لا تقوى اللغة المباشرة على قوله. غير أنّ هذا الجدل حول تعريف الفن سرعان ما يتقاطع مع سؤال آخر لا يقلّ إلحاحًا: هل يمكن، أو ينبغي، تقييم الفن أخلاقيًا؟ وهل يُفقده ذلك حريّته الجوهرية، أم يحميه من أن يتحوّل إلى أداة للتضليل أو التحريض أو الإفساد؟

بهذين السؤالين يتشكل مدار هذا المقال: ما الفن؟ وما حدود مساءلته أخلاقيًا؟

أولًا: تعريف الفن… أو محاولة الإمساك بما لا يُمسك

لم يُجمع الفلاسفة عبر التاريخ على تعريف جامع للفن، لا لأنّ التعريف مستحيل في ذاته، بل لأنّ الفن يرفض أن ينحصر في قالب واحد. ومع ذلك، يمكن استعراض أربع مقاربات كبرى شكّلت مسار النظرية الجمالية:

1. الفن بوصفه محاكاة (Mimesis)

عند أفلاطون وأرسطو، الفن هو تقليد للعالم؛ صورة عن صورة. أفلاطون رأى فيه خطرًا لأنه يبعد الإنسان عن الحقيقة، أمّا أرسطو فقد منحه قيمة تطهيرية (Catharsis)، إذ يساعد على تهذيب الانفعالات عبر التماهي مع الشخصيات. غير أنّ هذه النظرة تضيق بالفن الحديث الذي لم يعد يقلّد العالم بل يعيد خلقه.

2. الفن كتعبير

مع الرومانسيين في القرن التاسع عشر، يُفهم الفن باعتباره البوابة التي يطلّ منها الفنان على الداخل البشري. هنا يصبح الفن لغة الانفعال والوجدان، أي ما “يحدث” داخل النفس قبل أن يُترجم في شكل لوحة أو قصيدة أو سيمفونية. لكنّ هذا التعريف يفترض أنّ الفنان عبقريّ متعالٍ على شروطه الاجتماعية، وهو افتراض بات اليوم محلّ مراجعة.

3. الفن كصنعة Form و Technique

ذهب الشكلانيون الروس والنقاد الحداثيون إلى أنّ الفن ليس ما يُقال، بل كيف يُقال. القيمة الفنية تنبع من البنية والأسلوب والابتكار في الشكل. هذه النظرة أعلت من دور التقنية، لكنها قلّلت من حضور المحتوى والمعنى، وجعلت الفن أقرب إلى لعبة لغوية ذات قواعد داخلية.

4. الفن كجهاز مؤسسي (Institutional Theory)

في القرن العشرين، طرح آرثر دانتو وجورج ديكي فكرة أنّ الفن يُعرَّف داخل “العالم الفني”—أي عبر المتاحف، النقاد، الأكاديميات، والأطر الثقافية التي تمنح شيئًا ما صفة “عمل فني”. هذا التفسير يفسّر ظهور أعمال يصعب تصنيفها، مثل الفن المفاهيمي وفن الأداء. لكنه يُدخل الفن في لعبة السلطة والمعايير المركّبة للمؤسسة الثقافية.

بين التعريفات الأربعة

يمكن القول إنّ الفن ليس كيانًا ثابتًا بل تجربة إنسانية متغيّرة تتأرجح بين المحاكاة والتعبير والصنعة والإطار المؤسسي. وهذا التعدد ليس ضعفًا، بل هو ما يمنح الفن قابليته اللانهائية لإعادة تعريف ذاته.

ثانيًا: الفن والنقد الأخلاقي… حدود الحرية وحدود المسؤولية

ينفتح السؤال الأخلاقي حين يتقاطع الفن مع العالم بكل آلامه وأطماعه وأهوائه. هل يحقّ لنا أن نطلب من الفن أن يكون نبيلاً؟ أو على الأقل غير مؤذٍ؟ أم أنّ الفن يجب أن يظلّ محرّرًا من كل قيمة خارج ذاته؟

1. الفن الحرّ: “الفن للفن”

تبنّى أوسكار وايلد، واتبعه كثير من الحداثيين، موقفًا حادًا مفاده أنّ الفن لا يخضع إلا لقوانينه الجمالية. وظيفة الفن ليست الإصلاح الاجتماعي أو الأخلاقي، بل خلق الجمال. غير أنّ هذا الموقف أدى إلى نوع من “العمى الأخلاقي”، إذ يفصل الفن عن تأثيره الواقعي في العالم.

2. الفن بوصفه قوة أخلاقية

في الجهة المقابلة، يرى ليو تولستوي أنّ الفن الحقيقي هو الفن الأخلاقي، لأنه ينقل مشاعر إنسانية سامية تُنمّي التعاطف وتوحّد البشر. الفن السيئ، بحسبه، هو الذي يخدر الشعور الأخلاقي أو يثير الغرائز. هذا الرأي أعاد ربط الفن بالقيم العليا، لكنه قد يختزل الإبداع في وظيفة وعظية لا يحتملها الفن الحديث.

3. الفن كمسؤولية اجتماعية

مع النقد الثقافي في القرن العشرين—من مدرسة فرانكفورت إلى ما بعد الكولونيالية—صار يُنظر إلى الفن باعتباره فاعلًا في المجال العام. قد يحرض على العنف، يشرعن خطاب الكراهية، يُجمل السلطة، أو يعيد إنتاج الهيمنة. هنا يصبح الفن قابلًا للنقد الأخلاقي لا لأنه يفتقد الجمال، بل لأنه الظل الرمزي لمشكلات واقعية.

4. إشكالية الفصل بين “القيمة الجمالية” و“القيمة الأخلاقية”

يرى مارثا نوسباوم أنّ الأدب مثلًا قادر على توسيع خيالنا الأخلاقي، وأنّ الحكم الجمالي لا ينفصل عن القيم. في المقابل، يرى آخرون مثل كيندال والتون أنّ الحكم الأخلاقي على الفن قد يضلّل الحكم الجمالي، لأنّ دور الفن ليس تمثيل الصلاح بل توسيع التجربة.

ثالثًا: مقاربة توفيقية… الفن كحريّة واعية

لا يمكن الدفاع عن “الفن الحرّ” دون الاعتراف بأنّ الفن يؤثّر في الواقع الاجتماعي بعمق، تمامًا كما لا يمكن الدفاع عن “الفن الأخلاقي” دون الاعتراف بأنّ الفن جوهريًّا تجربة جمالية تتجاوز الوعظ. من هنا يمكن تقديم مقاربة وسطية:

  1. الفن حرّ في موضوعاته وأشكاله
    ولا يجوز تقييده بالوصاية الأخلاقية، وإلا فقد طاقته على كشف المسكوت عنه.

  2. لكن الفنان ليس بلا مسؤولية
    لأن الفن، مهما حاول الانفصال، يدخل في نسيج الثقافة ويؤثر في الوعي العام.

  3. الفن لا يُحاسَب كقانون، بل يُناقَش كخطاب
    أي أن النقد الأخلاقي لا ينبغي أن يطالب بمنع العمل، بل بقراءته، تفكيكه، وتحاور الجمهور معه.

  4. الفن الحقيقي هو الذي يزعزع المسلمات دون أن يحوّل الشر إلى دعوة
    فالحرية لا تعني الإضرار، كما أن الأخلاق لا تعني الرقابة.

خاتمة: الفن كمرآة ومسؤولية

الفن ليس مجرد كيان جمالي مستقل، ولا مجرد أداة أخلاقية؛ إنه الفضاء الذي تتداخل فيه الحرية والمسؤولية، والخيال والتأويل، والجمال والقلق. قدرته على تجاوز التعريفات ليست ضعفًا بل علامة على ثرائه، ومساحته الأخلاقية ليست قيدًا بل جزءًا من حضوره العميق في الحياة الإنسانية.

وبين الفن الذي يبحث عن الجمال، والفن الذي يبحث عن الحق، يبقى السؤال مفتوحًا:
هل الفن مرآة للعالم، أم العالم هو الذي يُعاد تشكيله عبر الفن؟


0 التعليقات: