الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


إعلانات أفقية

الأحد، نوفمبر 16، 2025

تحوّلات المعايير الصحفية في عصر الشراكة بين الإنسان والذكاء الاصطناعي: عبده حقي

 


في العقدين الأخيرين، شهدت الصحافة تحوّلات جذرية شملت بنيتها المهنية وأدواتها وإيقاع إنتاجها. غير أنّ التحوّل الأكثر عمقاً يتمثل اليوم في صعود نموذج تشاركي جديد بين الإنسان والذكاء الاصطناعي، نموذج يقلب التصورات التقليدية حول مهنة تقوم على البحث والتدقيق والتحليل والكتابة، ويعيد رسم حدود المسؤولية والمصداقية والابتكار. تتواجه في هذا السياق رؤيتان: رؤية تخشى على الصحافة من “رقمنة الضمير المهني”، وأخرى ترى في الذكاء الاصطناعي فرصة لتعزيز قدراتها، شريطة أن تظل البوصلة الأخلاقية بيد الإنسان.

تبدو هذه التحوّلات شبيهة بموجة عاتية تعيد تشكيل الشاطئ بعد كل مدّ، لا لتدمّر ما كان، بل لتعيد ترتيبه وفق منطق جديد. فمنذ نشر نيكولاس كار كتابه The Shallows كان النقاش منصبّاً حول تأثير التكنولوجيا على قدرات التفكير والتركيز. أمّا اليوم فنحن نناقش تأثير الذكاء الاصطناعي على المعايير الصحفية نفسها: معايير الدقة، ومعايير التحقق، ومعايير المسؤولية المهنية. فقد أظهرت مؤسسات إعلامية كـ The New York Times وReuters Institute في تقارير حديثة أنّ غرف الأخبار باتت تعتمد الذكاء الاصطناعي في تصنيف البيانات، ورصد الأخبار الكاذبة، وتحليل الرأي العام، بل وحتى في تحرير مسودات الأخبار الأولية. هذا التوسّع يطرح سؤالاً مركزياً: كيف نعيد تعريف “الدقة الصحفية” وسط خوارزميات تستند إلى احتمالات لا إلى يقين؟

الدقة في زمن الذكاء الاصطناعي لم تعد عملية ميكانيكية، بل نشاطاً تفسيرياً يدمج بين قدرات الخوارزميات وتقديرات المراسلين والمحررين. فالمحرّر الذي يستعمل أدوات التحقق الآلي للصور والفيديو—مثل أدوات التحقيق البصري المستخدمة في وحدات BBC Verify—يصبح قادراً على كشف التزييف بفعالية أكبر، لكنّه في الوقت ذاته يتحمّل مسؤولية مزدوجة: مسؤولية اختيار الأدوات المناسبة، ومسؤولية تفسير نتائجها. وهنا يكمن جوهر التحوّل: الذكاء الاصطناعي لا يلغي معيار التحقّق، بل يعمّقه ويجعله أكثر تعقيداً.

هذا التعقيد يطرح بدوره سؤالاً أخلاقياً: ما حدود الشفافية في العمل الصحفي؟ فالمؤسسات الإعلامية تجد نفسها اليوم مطالَبة بالكشف عن مستوى تدخل الذكاء الاصطناعي في إنتاج المحتوى. وقد أثار تقرير European Journalism Observatory حول “الشفافية الخوارزمية” نقاشاً واسعاً حول ضرورة أن يعي الجمهور ما إذا كانت المادة الإخبارية نتاجاً بشرياً خالصاً أم نتاج تعاون تقني. فالمتلقي الذي يثق بالإعلام بناءً على “مصداقية المصدر” يحتاج اليوم إلى معرفة “مصداقية الأداة”. وهذا ما دفع مؤسسات مثل Associated Press إلى تطوير دليل داخلي يحدد استخدام الذكاء الاصطناعي في التحرير، مؤكدةً أنّ القرار التحريري النهائي يظل بيد البشر.

غير أنّ التعاون بين الإنسان والآلة لا يتوقف عند حدود التحقق، بل يمتد إلى الإبداع نفسه. ففي تحقيق نشرته MIT Technology Review حول “المستقبل الإبداعي لغرف الأخبار”، ظهرت اتجاهات جديدة تعتمد الذكاء الاصطناعي في تحليل مئات الوثائق خلال دقائق، أو في محاكاة سيناريوهات اقتصادية وسياسية تساعد الصحفي في بناء زاوية تحليل أقوى. هكذا يصبح الذكاء الاصطناعي شريكاً معرفياً لا مجرد أداة تقنية، كما لو أنّ الصحفي يعمل مع مساعد سريع اللمح يمدّه بالاحتمالات والأسئلة قبل الإجابات.

لكنّ الشراكة المعرفية لا تخلو من مخاطر. إذ يمكن للخوارزميات أن تعيد إنتاج التحيّزات البنيوية نفسها الموجودة في البيانات التي درّبت عليها، ما قد يؤثر على القصص الصحفية المتعلقة بالأقليات أو الهجرة أو العدالة الاجتماعية. وقد حذر كتاب Weapons of Math Destruction لكاثي أونيل من هذه المخاطر، مبيناً أنّ الأنظمة الخوارزمية قد تكرّس الظلم إذا لم تُراقَب بعين بشرية ناقدة. وهذا يعني أنّ الصحفي في عصر الذكاء الاصطناعي عليه أن يتقن “محو الأمّية الخوارزمية”، أي أن يفهم كيف تفكّر الخوارزميات ليعرف كيف يستعملها دون أن يقع في أسرها.

وإذا كانت الصحافة لطالما اعتمدت على مهارات فردية كالتحقيق والكتابة والمقابلة، فإنّ الأفق الجديد يربط هذه المهارات بقدرات رقمية متقدّمة، ويحوّل المهنة إلى مساحة هجينة تجمع بين الحسّ التحريري والتمكّن التقني. تصبح الصحافة في هذه الحالة أقرب إلى “مختبر” منها إلى “مكتب تحرير”، وتتقاطع فيها المعرفة الإنسانية مع التحليل الآلي كما تتداخل الألوان في لوحة انطباعية: يصعب فصلها، لكن أثرها يظهر في وضوح الصورة.

وعلى الرغم من أن بعض النقّاد يروّجون لخطاب “استبدال الصحفيين بالذكاء الاصطناعي”، إلا أنّ التجارب العالمية لا تؤكد هذا الاتجاه. فالصحافة الآلية في مؤسسات مثل Bloomberg وLos Angeles Times بقيت محصورة في الأخبار المالية والطقسية والزلازل، أي في المجالات التي تعتمد على البيانات أكثر من السرد. بينما ظلّت المقالات التحليلية، والتحقيقات الاستقصائية، والتقارير الميدانية أعمالاً بشرية بامتياز، لأنّها تحتاج إلى حسّ اجتماعي وذكاء عاطفي وتقدير سياقي لا يمكن للخوارزمية محاكاته إلا جزئياً.

إنّ تطور معايير العمل الصحفي لا يعني محو التجربة البشرية، بل إعادة توزيع أدوارها. فالبشر يقدّمون القدرة على التأويل والحدس والتعاطف، بينما تقدّم الخوارزميات السرعة والدقّة الحسابية والبحث في كمّ هائل من المعلومات. وبين القدرة البشرية على طرح السؤال، والقدرة الآلية على فرز الإجابات المحتملة، تبرز الصحافة كفنّ للتوازن بين ما هو حيّ وما هو رقمي، بين ما ينبع من القلب وما يصدر عن المعالج الرقمي.

تلك هي لحظة التحوّل: لحظة يعاد فيها تعريف العلاقة بين الصحفي وأدواته، وتُختبر فيها قدرة المهنة على الحفاظ على روحها رغم تغيّر هندستها. فالشراكة بين الإنسان والذكاء الاصطناعي ليست صراعاً على من يكتب الخبر، بل اتفاقاً على كيفية صناعته. وإذا نجحت الصحافة في بناء هذا الاتفاق، فإنّها ستدخل مرحلة جديدة من التطور المعرفي، تُصبح فيها أكثر قدرة على التحليل، وأكثر سرعة في الاستجابة، وأكثر قوة في مواجهة التضليل.

هذا التحول ليس مجرد “تحديث تقني”، بل خطوة نحو إعادة صياغة مفهوم الحقيقة في عصر باتت فيه البيانات تتدفّق مثل نهر لا يتوقف. وفي هذا النهر الهادر، يظل الصحفي—بخبرته وحدسه وقيمه—القادر على تحويل الفوضى الرقمية إلى سردية مفهومة، وعلى تحويل الضجيج إلى معنى، وعلى منح القارئ ذلك الشعور القديم بأنّ الحقيقة، رغم كل شيء، لا تزال ممكنة.


0 التعليقات: