في هذا اليوم الحزين، فقد المغرب أحد رموزه اليسارية الأكثر صدقًا وصلابة، المناضل مصطفى البراهم الذي ترجل بعد مسار طويل في دروب الفكر والنضال، تاركًا وراءه إرثًا إنسانيًا وسياسيًا عميقًا سيظل حاضرًا في ذاكرة اليسار المغربي والعربي على السواء. لم يكن البراهمة مجرد سياسي أو نقابي، بل كان ضميرًا يقظًا حمل همّ الوطن من موقع المبدئية والالتزام، وواجه من أجل قناعاته العزلة والتضييق والسجن دون أن يتراجع أو يساوم.
وُلد مصطفى البراهمة في منتصف خمسينيات القرن الماضي، ونشأ في بيئة شعبية زرعت فيه الحس بالعدالة الاجتماعية منذ الطفولة. تخرّج مهندسًا وعمل في قطاع التعمير والإسكان، حيث شغل مناصب إدارية مهمة، لكنه لم يُغْرِه المنصب بقدر ما كانت تشغله قضايا الطبقات الفقيرة والمهمّشة. ومن الإدارة إلى الشارع، اختار أن يقف في صف الشعب، مناضلًا في صفوف الحركة اليسارية الراديكالية منذ سبعينيات القرن الماضي، حين التحق بتنظيم “إلى الأمام”، أحد أبرز التيارات الماركسية التي قاومت النظام القائم بشجاعة فكرية وسياسية.
دفع البراهمة ثمن انخراطه غاليًا، إذ تعرّض للاعتقال في زمن “سنوات الرصاص”، وقضى سنوات في السجون، حيث اختبر أقصى معاني الصمود والعزلة. لكنه لم يخرج من السجن منكسرًا، بل أكثر وعيًا بعمق المأساة الاجتماعية والسياسية، وأكثر تصميمًا على مواصلة النضال. في الزنازين درس القانون والسياسة، وتعمق في الفكر الماركسي النقدي، فصار أحد الأصوات الفكرية التي تمثل الجيل الثاني من اليسار المغربي المقاوم.
برز مصطفى البراهمة في التسعينيات وأوائل الألفية كواحد من مؤسسي **حزب النهج الديمقراطي**، الذي انبثق من رحم التجربة السرية لحركة “إلى الأمام”. بصفته أمينًا عامًا للحزب لولايتين متتاليتين، كان يمثل الوجه الأوضح لليسار الجذري في المغرب، صوتًا ناقدًا للسياسات الرسمية، مدافعًا عن الحركات الاجتماعية، ومناصرًا لقضايا العدالة والديمقراطية والكرامة الإنسانية.
لم يكن البراهمة زعيمًا حزبيًا بالمعنى التقليدي، بل كان رجل قناعات ومواقف. تميز خطابه بالوضوح، وبالقدرة على الجمع بين النظرية والممارسة، بين الفكرة الثورية والالتزام اليومي بقضايا الناس. لم يبحث عن الأضواء، بل كان يفضل الميدان، ويعتبر أن النضال لا يُختزل في الخطابات ولا في المؤتمرات، بل في العمل المستمر إلى جانب الطبقات الكادحة التي آمن بها حتى آخر لحظة من حياته.
عرف عنه خصومه قبل رفاقه صرامته الفكرية، ونزاهته الأخلاقية، ورفضه لكل أشكال التملق والمساومة. لم يتردد في انتقاد السياسات الحكومية مهما كانت حساسيتها، كما لم يتوانَ في الدفاع عن حرية التعبير وحق الاحتجاج السلمي. في زمن هيمنت فيه الانتهازية السياسية وتبدلت فيه المواقف تبعًا للمصالح، ظل البراهمة وفيًا لخط اليسار المبدئي، لا يحيد عن فكرة العدالة الاجتماعية مهما تغيرت الرياح.
كان مثقفًا من طراز خاص، يقرأ كثيرًا، ويكتب قليلاً، لكنه كان إذا تكلم ترك أثرًا. لغته بسيطة لكنها عميقة، وطرحه سياسي لكنه إنساني قبل كل شيء. لم يكن يرى في اليسار مجرد مشروع أيديولوجي، بل رؤية أخلاقية للعالم، أساسها الإنسان وكرامته.
برحيله، فقد اليسار المغربي أحد آخر رموزه الذين حافظوا على شعلة المبدئية في زمن الانكسارات. رحل جسد مصطفى البراهمة، لكن الفكرة التي نذر لها حياته لم تمت. سيظل صوته حاضرًا في ذاكرة النضال، كرمزٍ للوفاء، وكنموذجٍ للسياسي الذي لم يبدّل مواقفه رغم تقلب الأزمنة.
لقد عاش حياة بسيطة، ومات كما عاش: شامخًا، هادئًا، بعيدًا عن الصخب. لا يملك قصورًا ولا ثروات، بل رصيدًا من المواقف الشريفة التي لا تُقاس بالمال. وفي زمن التراجع، يذكّرنا رحيله بمعنى الالتزام السياسي الحقيقي، وبأن السياسة ليست مهنة ولا سلطة، بل مسؤولية أخلاقية تجاه الناس.
كلمة وداع
نم قرير العين أيها الرفيق،
فالأفكار التي زرعتها في تربة هذا الوطن لن تموت.
قد ترحل الأجساد، لكن الذاكرة لا تُنسى.
سيذكرك التاريخ لا لأنك كنت زعيمًا حزبيًا، بل لأنك كنت **ضميرًا حيًّا** في زمنٍ نامت فيه الضمائر.
سلام على روحك النقية، وعلى حلمك الذي سيبقى حيًّا ما بقي في المغرب من يؤمن بالحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية.
0 التعليقات:
إرسال تعليق