الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


الاثنين، أكتوبر 13، 2025

قراءة في كتاب التغذية الراجعة: حول مستقبل الإعلام في القرن الحادي والعشرين: ترجمة عبده حقي

 


في عصر يتميز بالتحولات الرقمية السريعة وتسارع التفاعل بين الإنسان والتكنولوجيا، يطرح الباحث مارك هانسن في كتابه Feed-Forward تأمّلات نظرية جريئة حول كيف يمكن لوسائط القرن الحادي والعشرين أن تعيد تشكيل التجربة الحسية، والحساسية، ووعي الإنسان بالعالم. الكتاب ينتمي إلى حقل الدراسات الإعلامية والنظرية التأملية (media theory / speculative philosophy)، ويحاول أن يجمع بين فلسفة المعالجة (process philosophy) و الفلسفة الإعلامية المعاصرة.

مضمون الكتاب وأهم محاوره

يمكن تقسيم مضامين الكتاب إلى عدة محاور رئيسية:

  1. التحول من الوسائط التي “تتوسّط” إلى وسائط “التنبؤ” أو “الاستشراف”
    هانسن يجادل بأن الوسائط المعاصرة لم تعد تقتصر على نقل المعلومات أو تمثيلها، بل تسعى إلى التنبؤ، واستباق الواقع، بل والتدخل في التكوينات الحسية والتجريبية لما هو قادم. هذا التنبؤ يُعبَّر عنه بـ “feed-forward” بمعنى أن الوسائط لا تقتصر على التأخير أو التغذية الراجعة فحسب، بل تمتد إلى المستقبل.

  2. استحضار الفلسفة العملية (Process Philosophy) ووايتهيد (Whitehead)
    هانسن يتبنى قراءة لمفكرة ألفرد نورتون وايتهيد، محاولاً لبِّن فلسفة وسائط تأخذ بعين الاعتبار العالم كعملية دائمة من التحوّل والتحوّل في التجربة. يعتمد على فكرة أن الوسائط المعاصرة تشكّل “حساسية عالمية” تتجاوز الكائن البشري، بحيث تصبح الوسائط كأجهزة استشعار للعالم بأسره، تعمل على التقاط البُنى الحسية التي تُشكَّل في الهامش بين الكائن والبيئة. criticalinquiry.uchicago.edu+2journals.uchicago.edu+2

  3. نقد النزعة “اللاموضوعية” والانعزالية في الفلسفات المعاصرة
    هانسن يوجّه نقداً إلى التيارات التي تسعى إلى إزالة المركز البشري (antihumanism أو non-anthropocentrism) كمدخل أساسي في بعض فلسفات الوسائط الحديثة، مثل التيارات المرتبطة بـ Speculative Realism أو Object-Oriented Ontology، فيرى أن بعض هذه التيارات تسقط في التجريد المفرط الذي يفصل التجربة الحسية البشرية عن واقعها. لذلك يطرح “حظر السبَقية (Speculative Ban)” الذي يقضي بعدم تسمية الكائنات الفعلية كسبب مباشر للتجربة، بل اعتبارها ضمن الأفق الافتراضي الذي يُحدَّد في كل لحظة. alexanderosmith.com+2sussex.figshare.com+2

  4. الإحساس والعاطفة باعتبارهما بعدًا وسيطيًا في التجربة الرقمية
    من خلال تحليله لأعمال فن الوسائط الجديدة (media art)، حيث يستخدم هانسن أمثلة من مشاريع فنية تعتمد على الرصد الحسي والعاطفي، ليبيّن كيف أن الوسائط الرقمية تعمل على «تفعيل» أو «إفراز» البُنى العاطفية التي كانت مخفية أو هامشية سابقاً، وتوسّع من إمكانية التقاط تجارب الشعور والتفاعل الحسي. criticalinquiry.uchicago.edu+2journals.uchicago.edu+2

  5. التحدّيات المنهجية والنظرية
    هانسن لا يقدّم كتابًا سهل القراءة؛ فطريقة الكتابة تصبح في أحيان كثيرة لغوية تأملية، تتنقّل بين الفلسفة، النظرية الإعلامية، الأمثلة الفنية، والتأمل الفينومينولوجي-الاستعاري. كما أن بناء المفاهيم غالباً ما يكون مشحونًا بالمصطلحات الفلسفية الكثيرة، ما قد يضع القارئ غير المتخصّص في تحدٍّ لفهم الروابط الدقيقة بين الفصول والمفاهيم. بعض النقاد يرون أن هانسن يضع نفسه في حالة دفاع دائم ضد التيارات المنافسة، فيُخشى أن يُخفى النص أحيانًا وراء التعقيد اللغوي.

نقاط القوة

  • إبداع المفهوم وتركيب الأفكار: يُعتبر Feed-Forward من النصوص المبتكرة التي تحاول إعادة تشكيل النظر إلى الوسائط الرقمية ليس كأدوات بل كمكوّن من الحساسية العالمية، وهي رؤيا تعدّ رافعة نظرية مهمة في دراسات الوسائط.

  • جسر بين الفلسفة والتكنولوجيا والفن: هانسن يعبر بسلاسة بين التأمل الفلسفي والنماذج الفنية المعاصرة والتقنيات الإعلامية الحديثة، مما يمنح قرّاء الكتاب إماكنية ربط النظرية بالممارسة.

  • تحذير فكري من التجريد المفرط: نقده لبعض التيارات التي تتجاوز التجربة الإنسانية بشكل مطلق يُعد توازناً مفيداً، إذ يُعيد الاعتبار للإحساس والتجربة كجزء لا ينفصل من الواقع الوسيطي.

نقاط الضعف أو التحديات

  • المنحى التخصصي وصعوبة الوصول: الأسلوب التأملي والمصطلحات الكثيرة قد تجعل الكتاب أقل ملاءمة للقارئ العادي أو الباحث غير المتخصص في الفلسفة الوسائطية.

  • عدم كفاية الأمثلة التطبيقية: في بعض الفصول، قد يشعر القارئ أن المفاهيم تبقى على مستوى التأمل المجرد، دون ربط كافٍ بحالات تطبيقية أو تكنولوجيا محددة يمكن التحقق منها.

  • إمكانية التحيّز في المقارعة الفكرية: بعض النقاد يرون أن هانسن يبالغ في تشديد النقد على التيارات الأخرى (خصوصًا في مجال الفلسفة الجديدة والواقعية التكهنية) ليرفع من مكانة موقفه الفلسفي. alexanderosmith.com+1

الإسهام في حقل الدراسات الإعلامية والنظرية

يُعدّ Feed-Forward إضافة معتبرة في الدراسات المعاصرة للوسائط، لأنه:

  • يطرح أطرًا جديدة للنظر إلى التوسط الإعلامي، خصوصًا في عصر الذكاء الاصطناعي والبيانات الكبيرة، حيث تصبح الوسائط أدوات تشكيل للمستقبل وليست مرايا للماضي أو الحاضر فقط.

  • يُعيد اعتبار الفلسفة العملية (خصوصًا وائيـتهيد) كمرتكز مفيد لفهم التغيّرات التكنولوجية الراهنة.

  • يعزّز النقاش حول دور الإنسان في سياق وسائطٍ تتجاوز الكائن البشري، دون أن تُهمش التجربة الإنسانية أو تحوّلها إلى مجرد تابع للتكنولوجيا.

خلاصة

كتاب Feed-Forward لِمارك هانسن هو نص مكثّف ومُتعدد المستويات، يجمع بين التأمل الفلسفي والتحليل الإعلامي والنظر في التجربة الحسية في العصر الرقمي. ربما لا يكون مناسبًا كمدخل أول لمن يرغب في دراسة الوسائط، إلّا أنه بلا شك مرجع غني لمن يريد التعمق في فلسفة الوسائط المعاصرة ومفاهيم التنبؤ والحساسية الرقمية.


0 التعليقات: