يُعتبر الحوار الذي جمع الفيلسوفة الأمريكية جوديث بتلر والأنثروبولوجية المصرية سبا محمود سنة 2006 من أهم النقاشات الفلسفية حول العلاقة المعقّدة بين العَلمانية، النسوية، والممارسات الدينية. ففي زمنٍ تتقاطع فيه الأيديولوجيات الغربية عن “التحرر النسوي” مع التجارب المعيشة للنساء في المجتمعات المسلمة، برز هذا الحوار بوصفه تجسيدًا نقديًا لمواجهة فكرية بين رؤيتين: رؤية غربية ما بعد حداثية تُعيد النظر في حدود الليبرالية والعَلمانية، وأخرى تنتمي إلى تجربة ما بعد كولونيالية تحاول استعادة صوت الدين والثقافة في تعريف الذات الأنثوية. ما الذي يحدث حين تتحاور بتلر، المنظّرة لأداء الجندر، مع محمود، الباحثة في أشكال التقوى الإسلامية؟ وما الذي يكشفه هذا الحوار عن التوتر بين الحرية الفردية والإخلاص الإيماني في زمن ما بعد الاستعمار؟
يبدأ الحوار بين بتلر
ومحمود من نقطة إشكالية: هل يمكن لمفهوم العَلمانية أن يكون محايدًا تجاه الدين والجندر؟
بتلر ترى أن العَلمانية الحديثة ليست مجرد فصل للدين عن الدولة، بل مشروع سياسي وثقافي
يفرض تصورًا محددًا عن الحرية والعقل والذات. إنها تذكّرنا بأن العلمانية لا تلغي الدين،
بل “تُعيد تنظيمه” ضمن فضاء يخضع للسلطة الحديثة. أما محمود، فتذهب أبعد من ذلك: فهي
ترى في العَلمانية أداة لإعادة تشكيل الذوات المؤمنة وفق نموذج ليبرالي غربي لا يعترف
بأن الخضوع لله يمكن أن يكون شكلاً من الفاعلية الأخلاقية وليس مجرد استلاب.
في هذا التقاطع بين
الفلسفة والأنثروبولوجيا، تتولد لحظة نقدية نادرة. إذ تحاول بتلر أن توازن بين نقدها
للعَلمانية الغربية وبين إصرارها على الدفاع عن الحرية الجندرية. فهي تعترف بأن خطاب
حقوق المرأة قد تحوّل أحيانًا إلى ذريعة استعمارية لتبرير التدخل في ثقافات “الآخر”.
لكن في الوقت نفسه، ترفض أن يُختزل الجسد الأنثوي إلى موضوع للتقوى أو الطاعة. تذكّرنا
بتلر أن “الأداء الجندري” ليس محصورًا في الغرب، بل هو ظاهرة عالمية تتخذ أشكالًا متعددة
تبعًا للسياقات الثقافية والسياسية.
من جهتها، تدعو سبا
محمود إلى نقد النسوية الليبرالية التي تنظر إلى الدين من منظور الخلاص والتحرر فقط.
في دراستها الشهيرة Politics of Piety،
بيّنت أن النساء في حركة التقوى المصرية لا يسعين إلى الحرية بمعناها الحداثي، بل إلى
تشكيل الذات الأخلاقية من داخل المنظومة الدينية نفسها. ومن هنا، تطرح محمود سؤالًا
جوهريًا: هل يمكن فهم الطاعة كاختيار حر؟
بالنسبة إليها، الفاعلية
لا تكمن في التمرّد فقط، بل في قدرة الذات على إعادة إنتاج المعنى من داخل بنية السلطة
ذاتها، سواء كانت دينية أو اجتماعية.
هذا الحوار بين المرأتين
المفكرتين يفتح جرحًا فلسفيًا عميقًا: فالعَلمانية التي تُقدَّم كأفق عالمي للحرية،
قد تتحول إلى سلطة تُقصي أنماط الوجود غير المتوافقة مع عقلانيتها. والعكس صحيح أيضًا،
فالتدين الذي يُقدَّم كفضاء للهوية الروحية يمكن أن يُصبح أداة لتقييد الجسد والعقل.
بين هذين القطبين تتحرك بتلر ومحمود في مسار جدلي لا يبحث عن “انتصار” بل عن تفكيك
مزدوج: تفكيك لتسلّط العَلمانية من جهة، ولنزعة الشمول الأخلاقي للدين من جهة أخرى.
يبدو أن جوهر الحوار
ليس في الموقف من الدين أو الجندر بقدر ما هو في نقد ادعاء العالمية ذاته. فكلتا المفكرتين
تدركان أن المفاهيم الكبرى مثل “الحرية” و“المساواة” ليست محايدة، بل تحمل آثار التاريخ
الاستعماري. ولهذا، حين تتحدث بتلر عن “الاعتراف المتبادل” كشرط للحرية، تراها محمود
من منظور مختلف: الاعتراف لا يكون فقط بحق الاختلاف، بل بحق التدين المختلف. إن الدفاع
عن نساء يرتدين الحجاب ليس تراجعًا عن النسوية، بل توسيع لمفهوم agency بحيث يشمل أشكالًا غير ليبرالية من الوجود
الأنثوي.
من الناحية المنهجية،
يجسد هذا الحوار نموذجًا فريدًا للتفكير ما بعد الكولونيالي النسوي. فهو لا يسعى إلى
إقامة ثنائية بين الغرب والإسلام، بل إلى مساءلة اللغة التي يتحدث بها كل طرف. بتلر
تُعيد قراءة النسوية الغربية من منظور نقدي، بينما محمود تُعيد تعريف التقوى كأفق إنساني
بديل عن الحرية المجردة. وفي هذا الالتقاء تظهر إمكانية بناء نسوية متعدّدة اللغات،
لا تُقصي الدين ولا تقدّسه، بل تضعه ضمن فضاء الحوار الإنساني.
إن القيمة الفكرية
لهذا الحوار تكمن في جرأته على مساءلة المسلّمات. فبينما تميل الفلسفة الغربية إلى
اعتبار الإيمان شأنًا خاصًا، تُذكّرنا محمود بأن الذات المؤمنة ليست أقل تعقيدًا أو
عقلانية من الذات العلمانية. ومن خلال هذا الاعتراف، تنفتح أبواب جديدة أمام النقاش
حول الحداثة المتعددة (Multiple Modernities) التي لا تنحصر في النموذج الأوروبي.
في الختام، يمكن القول
إن تبادل جوديث بتلر وسبا محمود حول العَلمانية والنوع الاجتماعي يقدّم نموذجًا فلسفيًا
وإنسانيًا للحوار العابر للثقافات. فهو لا يدعو إلى التوفيق بين الحرية والتقوى بقدر
ما يدعو إلى توسيع أفق الفهم الإنساني، حيث يمكن للمرأة أن تكون حرة وهي مؤمنة، ومؤمنة
وهي ناقدة. في عالمٍ يزداد انقسامًا بين منطق الغرب والشرق، يظل هذا الحوار علامة على
أن الفكر النقدي، مهما اختلفت لغاته، يمكن أن يكون جسرًا نحو عدالة معرفية وجندرية
تتجاوز ثنائيات القرن العشرين.
0 التعليقات:
إرسال تعليق