الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


الاثنين، أكتوبر 13، 2025

تجديد اليوتوبيا: مركز بومبيدو بين الذاكرة والرؤية المستقبلية: عبده حقي


 يعدّ مركز بومبيدو في باريس أحد أبرز الرموز الثقافية في القرن العشرين، فهو لم يُشيَّد ليكون مجرد متحف يضمّ أعمالاً فنية، بل جاء منذ افتتاحه سنة 1977 كمشروع طموح يهدف إلى دمقرطة الثقافة وتوسيع فضاء الإبداع ليشمل الجميع. كان بومبيدو آنذاك تجسيدًا ليوتوبيا فكرية وثقافية حلمت بفضاء مفتوح تتداخل فيه الفنون البصرية والموسيقى والسينما والتصميم والمكتبة العامة، دون فواصل صارمة بين النخبة والجمهور، ودون حدود بين الداخل والخارج. كان المبنى نفسه – بطابعه الصناعي وبواجهته المعدنية وأنابيبه الملوّنة – إعلانًا جريئًا عن ثورة معمارية وفكرية أرادت أن تنقل الفن من القاعات المغلقة إلى قلب المدينة النابض.

لكن مع مرور العقود، بدأ هذا الحلم الطوباوي يواجه تصدعات واقعية. فالمساحات التي صُمّمت لتكون مرنة ومفتوحة تحوّلت تدريجيًا إلى أقسام معزولة، والمنتدى الذي كان في الطابق الأرضي فضاءً حيًّا للحوار والمبادرات بات أقلّ انفتاحًا. ومع ازدياد التنظيمات الإدارية وتحوّل بعض الأنشطة إلى مؤسسات شبه مستقلة داخل المركز، فقد المشروع شيئًا من حيويته الأولى. وقد لاحظ عدد من المفكرين، من بينهم ميشيل دو سيرتو، أنّ المركز الذي كان يُفترض أن يحرّر الزائر من قيود المؤسسة التقليدية أصبح يمارس بدوره نوعًا من “الرقابة الرمزية”، حيث يُنظَّم الفضاء ويُراقَب التدفق البشري كما لو أنّه مختبر اجتماعي مراقب عن بُعد.

على المستوى المادي، واجه المبنى تحديات أخرى. فالهندسة المعمارية التي صُمّمت لتكون مرنة وقابلة للتعديل اصطدمت بواقع تقني معقّد، إذ ظهرت مع الزمن مشكلات في التهوية والتدفئة والأمان والصيانة، ناهيك عن كلفة الترميم الباهظة وتحوّل المعايير البيئية في أوروبا. لهذا عرف بومبيدو عدة مراحل من الإصلاح والترميم، أبرزها في أعوام 1985 و1999 و2019، وصولًا إلى قرار الإغلاق الكامل المرتقب بين 2025 و2030 لإجراء عملية تجديد شاملة. هذه العملية لا تمثل مجرد ترميم بناية تاريخية، بل هي لحظة إعادة نظر في معنى المشروع الثقافي نفسه: هل يمكن «تجديد يوتوبيا» وُلدت في سياق مختلف تمامًا عن عالم اليوم؟

إنّ السؤال الجوهري الذي يطرحه المقال هو كيف يمكن لمركز بومبيدو أن يستعيد روحه الأصلية من دون أن يتحوّل إلى مزار متحفي جامد؟ التجديد المطلوب لا ينبغي أن يكون معماريًا فقط، بل ثقافيًا وفكريًا في الأساس. فالمركز بحاجة إلى إعادة صياغة علاقته بالجمهور، وإلى تطوير آليات جديدة للوساطة الفنية، وإلى كسر المركزية الباريسية التي لم تعد تعبّر عن روح العصر. فاليوم، بعد عقود من التحولات الرقمية والاجتماعية، أصبح الجمهور أكثر تطلبًا وتنوعًا، ولم تعد المؤسسات الثقافية الكبرى تحتكر الإنتاج الفني أو تفسيره كما في الماضي.

من هنا تبرز أهمية التفكير في «يوتوبيا جديدة» تتناسب مع القرن الحادي والعشرين، يوتوبيا لا تقوم على الانبهار بالحداثة التقنية وحدها، بل على إعادة اكتشاف البعد الإنساني للممارسة الفنية والمعرفية. إنّ مركز بومبيدو، إذا ما نجح في تحويل مشروع تجديده إلى مختبر للأفكار الجديدة، يمكن أن يستعيد مكانته ليس كمبنى رمزي فحسب، بل كمنصة مفتوحة لتجريب أشكال جديدة من اللقاء بين الإنسان والفن والمعرفة.

ففي النهاية، لا يتعلق الأمر بتجديد الخرسانة والأنابيب والزجاج، بل بتجديد المعنى ذاته. فكما كان المركز في سبعينيات القرن الماضي علامة على «يوتوبيا العصر الصناعي»، فإنّ عليه اليوم أن يصبح رمزًا لـ«يوتوبيا العصر الرقمي» — فضاءً يتفاعل فيه الجسد مع الصورة، والذاكرة مع المستقبل، والفن مع المجتمع. وبين هذه الطبقات المتشابكة، يمكن لروح بومبيدو أن تُبعث من جديد، متحرّرة من قيود الزمن، وماضية في إعادة اختراع الحلم الثقافي الإنساني في قلب باريس.


0 التعليقات: