الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


الاثنين، أكتوبر 13، 2025

الأخلاق التطبيقية: الفلسفة في خدمة الحياة اليومية: ترجمة عبده حقي


 تُعدّ الأخلاق التطبيقية من أهم فروع الفلسفة المعاصرة التي تسعى إلى وصل الجسر بين المبادئ الأخلاقية المجردة وواقع الإنسان المعيش بكل ما فيه من تعقيدات وتناقضات. فإذا كانت الأخلاق النظرية تطرح أسئلة كبرى حول الخير والشر، والعدالة والفضيلة، فإن الأخلاق التطبيقية تتجه إلى الواقع لتسأل: كيف يمكن لهذه المفاهيم أن تُترجم إلى سلوك عملي في الطب، في الإعلام، في الاقتصاد، أو في التكنولوجيا؟ إنها محاولة لإخضاع الوقائع اليومية إلى ميزان القيم الإنسانية، لا لتدينها فحسب، بل لتوجّهها نحو ما يجعل الحياة أكثر مسؤولية وعدلاً وإنسانية.

منذ النصف الثاني من القرن العشرين، بدأ الاهتمام بالأخلاق التطبيقية يتسع مع ظهور قضايا جديدة فرضها التقدم العلمي والتكنولوجي، مثل الهندسة الوراثية، والاستنساخ، والذكاء الاصطناعي، والبيئة، وحقوق الإنسان، وحرية التعبير. هذه التحولات جعلت الفلاسفة والعلماء والأطباء والإعلاميين يطرحون سؤالاً وجوديًا: هل يحق لنا أن نفعل كل ما نستطيع أن نفعله؟ من هنا برزت الحاجة إلى أخلاق جديدة تتعامل مع العلم والاقتصاد والسياسة بوصفها فضاءات للقرار الأخلاقي لا مجالات محايدة.

في قلب هذا الحقل الفلسفي نجد فروعًا متخصصة تضيء زوايا مختلفة من التجربة الإنسانية. فـالأخلاق الحيوية أو Bioethics تُعنى بكل ما يتصل بالحياة البيولوجية من قضايا مثل الإجهاض، والقتل الرحيم، وزراعة الأعضاء، والعلاج الجيني، حيث يتقاطع العلم مع القيم الدينية والإنسانية في صراع دائم بين الحق في الحياة وحرية القرار الفردي. أما الأخلاق الاقتصادية أو Business Ethics، فتركز على سلوك المؤسسات التجارية والشركات، وتطرح أسئلة حول الفساد، والشفافية، والعدالة الاجتماعية، وحقوق العمال، ومسؤولية الشركات تجاه المجتمع. وتأتي الأخلاق البيئية لتذكّر الإنسان بأنه ليس سيّد الطبيعة، بل جزء منها، وأن أي اعتداء على البيئة هو اعتداء على الذات الإنسانية نفسها.

وفي عصر الإعلام الرقمي، برزت أخلاقيات الإعلام والمعلومات لتتناول قضايا خطيرة كالتضليل الإعلامي، وانتهاك الخصوصية، وتسليع الحقيقة في زمن الخوارزميات. أما الأخلاق التكنولوجية أو Technoethics فقد أصبحت ضرورة مع تصاعد دور الذكاء الاصطناعي والروبوتات في اتخاذ القرارات، إذ بات السؤال الملحّ هو: هل يمكن للآلة أن تكون فاعلاً أخلاقياً؟ وهل يحق للبشر أن يفوضوا مسؤولياتهم الأخلاقية إلى برامج حاسوبية لا تملك وعياً أو ضميراً؟

تعتمد الأخلاق التطبيقية في تحليلها على ثلاث مدارس فلسفية كبرى. الأولى هي النفعية التي ترى أن الفعل الأخلاقي هو ما يحقق أكبر قدر من السعادة لأكبر عدد من الناس، كما عبّر عن ذلك جيريمي بنثام وجون ستيوارت ميل. الثانية هي الواجبية أو Deontology، المستمدة من فلسفة إيمانويل كانط، التي تعتبر أن القيمة الأخلاقية للفعل لا تُقاس بنتائجه، بل بمدى احترامه للواجب والمبدأ. أما الثالثة فهي أخلاق الفضيلة التي تعود جذورها إلى أرسطو، وترى أن الخير لا يتحقق فقط بالالتزام بالقواعد، بل بتكوين شخصية فاضلة تُمكّن الإنسان من الحكم السليم في المواقف المختلفة.

هذه المقاربات الثلاث لا تُقصي بعضها بعضاً، بل تتكامل في مقاربة القضايا المعاصرة التي تتطلب حسّاً أخلاقياً مرناً ومتعدداً. فعند مناقشة قضية مثل الذكاء الاصطناعي، مثلاً، لا يمكن الاكتفاء بالحكم النَّفعي الذي يقيس الفائدة الاقتصادية أو الاجتماعية، بل يجب النظر أيضاً إلى الواجب الأخلاقي في حماية الكرامة الإنسانية، وإلى الفضائل التي ينبغي أن تحكم العلاقة بين الإنسان والتقنية.

لقد أصبحت الأخلاق التطبيقية اليوم جزءاً من النقاش العمومي العالمي. فالمؤسسات الكبرى مثل منظمة اليونسكو ومنظمة الصحة العالمية تعتمد لجاناً أخلاقية تدرس آثار القرارات العلمية والسياسية على الإنسان والمجتمع. وفي الجامعات الكبرى، لم يعد تدريس الأخلاق حِكراً على أقسام الفلسفة، بل أصبح مكوّناً أساسياً في كليات الطب، والإعلام، والهندسة، والاقتصاد. ذلك أن العالم بات يحتاج إلى تربية أخلاقية جديدة تواكب سرعة التحولات التقنية والاجتماعية التي غيّرت شكل الإنسانية نفسها.

غير أن الأخلاق التطبيقية تواجه تحديات كبرى. أولها النسبية الثقافية التي تجعل من الصعب الوصول إلى معايير أخلاقية عالمية؛ فما يُعدّ مقبولاً في ثقافة ما قد يُعدّ محرّماً في أخرى. وثانيها تسارع التقدم التكنولوجي الذي يفوق أحياناً قدرة الفلاسفة والمشرّعين على استيعابه وتنظيمه. أما التحدي الثالث فهو تعارض المصالح الاقتصادية والسياسية مع المبادئ الأخلاقية، حيث تتراجع القيم أمام منطق الربح والسلطة.

ومع ذلك، فإن مستقبل الأخلاق التطبيقية يظلّ واعداً، لأنها لا تُقدّم حلولاً جاهزة بقدر ما تفتح باب الحوار بين الفلسفة والعلوم، بين المبدأ والواقع، بين الفرد والمجتمع. فكما يقول الفيلسوف الأسترالي بيتر سنجر: «الأخلاق ليست ترفاً فكرياً، بل هي فنّ العيش بمسؤولية في عالم مشترك». إن هذه المقولة تختصر روح الأخلاق التطبيقية التي تجعل من التفكير الفلسفي ممارسة حياتية، لا نظرية مجردة، ومن الإنسان كائناً قادراً على الموازنة بين الحرية والمسؤولية في زمن تتغير فيه حدود الفعل الأخلاقي كل يوم.


0 التعليقات: