الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


الاثنين، أكتوبر 13، 2025

الصحافة الحسية: من حاسة النظر إلى التجربة الكاملة للواقع: عبده حقي


يبرز اليوم مفهوم «الصحافة الحسية» بوصفه محاولة لإعادة التوازن بين العين وغيرها من الحواس في عملية التلقي. لم يعد الصوت أو الرائحة أو الملمس مجرد عناصر ثانوية في المشهد الإخباري، بل غدت أدوات معرفية قادرة على إعادة تشكيل العلاقة بين القارئ والعالم. فالخبر الذي يُرى فحسب، يظل ناقصًا، أما الخبر الذي يُسمع ويُشم ويُلمس، فإنه يعيد للصحافة جوهرها الإنساني المفقود: أن تكون تجربة حيّة لا مجرد معلومة
.

يُعرّف الباحث البريطاني ديفيد هوغز في دراسته المنشورة في مجلة

Journalism Studies (2023)  الصحافة الحسية بأنها “الانخراط المتعدد الحواس في سرد الخبر بهدف بناء إدراك شعوري شامل للحدث”. هذا التعريف، رغم بساطته، يكشف عن انقلاب معرفي في فهمنا لوظيفة الصحافة: فبدلاً من الاقتصار على تمثيل الحدث بصريًا، تسعى الصحافة الحسية إلى جعله محسوسًا. إن رائحة الدخان في تقرير عن حرائق الغابات، أو صوت أنين الجرحى في ميدان النزاع، ليست تفاصيل تقنية، بل أدوات لإشراك المتلقي في التجربة العاطفية والمعنوية للحدث.

لقد بدأت بعض المؤسسات الإعلامية الكبرى اختبار هذا النهج. ففي العام 2024، أطلقت هيئة الإذاعة البريطانية (BBC) مشروعًا تجريبيًا بعنوان Smelling the News، يتيح لمستخدمي الأجهزة الذكية شمّ الروائح المرتبطة بالتقارير البيئية من خلال أجهزة استشعار رقمية. كذلك، طورت صحيفة The New York Times في وحدة الصحافة التفاعلية مشروعًا صوتيًا بعنوان The Sound of the City، يرصد ضجيج المدن الكبرى ليربط التحليل الاقتصادي بالمشهد السمعي اليومي. هذه التجارب، وإن بدت خيالية، تشير إلى تحوّل نوعي في مفهوم الموضوعية الصحفية: من الحياد البارد إلى الحضور الكامل في التجربة.

لكن السؤال الجوهري هو: هل تنقل الحواس الحقيقة أم تصنعها؟ يرى الفيلسوف الفرنسي ميرلو-بونتي في كتابه Phénoménologie de la perception أن الإدراك ليس عملية استقبال سلبية، بل هو بناء مستمر للمعنى من خلال الجسد. بهذا المعنى، فإن إدخال الحواس في الصحافة لا يعني الانحياز إلى العاطفة، بل إعادة الاعتبار للجسد كأداة معرفة. فالمراسل الذي يصف ملمس الغبار على وجهه في منطقة حرب، لا يتخلى عن الموضوعية، بل يقدّم بعدًا معرفيًا آخر يعجز عنه التصوير وحده.

في العالم العربي، ما تزال الصحافة الحسية فكرة جنينية، رغم وجود إرهاصات مبكرة. فقد لجأت قناة الجزيرة الوثائقية في بعض أفلامها إلى مؤثرات صوتية وموسيقية تنقل المشاهد إلى قلب التجربة، كما في الفيلم الوثائقي صوت الرمل الذي استخدم تسجيلات حقيقية لحركة الرياح في الصحراء لإضفاء حسٍّ سمعي على المعنى الرمزي للوحدة والعزلة. إلا أن التحول الحقيقي يتطلب إدماج هذه المقاربات في غرف الأخبار، عبر تدريب الصحفيين على تقنيات السرد الحسي والوسائط التفاعلية.

من منظورٍ فلسفي، يمكن القول إن الصحافة الحسية تمثل عودة إلى «الخبر بوصفه حدثًا وجوديًا». فبينما كانت الصحافة التقليدية تكتفي بنقل ما وقع، تسعى الصحافة الحسية إلى جعلنا نعيش ما وقع. هي، بعبارة أخرى، صحافة تشبه الشعر في نزعتها إلى استدعاء المشاعر من خلال المادة، وتشبه العلم في سعيها إلى تحويل تلك المشاعر إلى معرفة قابلة للتحقق. إنها لا تلغي العقل، لكنها تذكّره بأن الحواس كانت دومًا طريقه الأول إلى العالم.

في النهاية، لا يتعلق الأمر بمجرد ترفٍ تكنولوجي أو موضة رقمية، بل بتحول في إدراكنا

للخبر نفسه. فإذا كان القرن العشرون قرن الصورة، فإن القرن الحادي والعشرين قد يكون قرن الإحساس. وفي هذا السياق، لن يكون الصحفي مجرد ناقلٍ للحقائق، بل مهندسًا لتجارب حسية ومعرفية تُعيد الإنسان إلى مركز الحكاية. فبين صمت الصورة وضجيج العالم، تولد الصحافة الحسية كجسرٍ جديد بين المعرفة والعاطفة، بين الرؤية والوجود.

0 التعليقات: