حين قرأت مقال «قارة بورخس» لأنّيك لوي في موقع La Vie des idées، شعرت أنني أدخل خريطة أدبية بلا حدود، خريطة تتّسع في كل قراءة كما لو كانت تنمو من تلقاء نفسها. لم أقرأ النص كدراسة نقدية فقط، بل كرحلة فكرية داخل تلك «القارة البورخسية» التي لا تتوقف عن التشكّل. كل جملة في المقال تذكّرني بأن الأدب ليس بناءً منتهياً، بل كيان حي يتنفس ويتحوّل، وأن ما نعتبره «العمل الكامل» لأي كاتب، ليس سوى صورة مؤقتة من صور وجوده في اللغة.
بورخس، كما تصفه الكاتبة، لم يكن مجرّد كاتبٍ أراد أن يترك بصمة، بل كان مهندسًا للّغات، صانع متاهات، وحارسًا للأفكار التي تخلق نفسها عبر النصوص. ومع ذلك، فإن ما تركه لنا لا ينتهي في المجلدات التي اختارها بنفسه. فخلف تلك الأعمال التي جمعها وراجعها بنفسه، هناك عالم آخر من النصوص التي كتبها ونشرها في الصحف والمجلات، ثم أهملها أو تناساها. هذه النصوص — المقالات القصيرة، الملاحظات النقدية، الترجمات، الأخبار، والخواطر الأدبية — تشكّل ما تسميه الكاتبة «الأراضي غير المكتشفة من قارة بورخس».
أشعر وأنا أتابع وصفها لهذا الإرث بأن بورخس لم يكتب ليخلّد نصًا بعينه، بل ليختبر هشاشة الذاكرة الأدبية. لقد كان، منذ بداياته، يختار ما يُدرج في كتبه بدقّة رياضية، فيحذف، ويعيد الصياغة، ويبدّل العناوين. بعض النصوص كتبها مرتين في زمنين مختلفين وبأسلوبين متباينين. لذلك، فإن ما نعرفه اليوم عن «أعماله الكاملة» لا يمثل سوى وجهٍ من وجوهه، وجهًا رسمه بنفسه لكنه ترك وراءه وجوهًا أخرى في الظل.
تصف أنيك لوي في مقالها كيف أن الناشرين بعد وفاته — وخصوصًا بعد موافقة وريثته ماريا كوداما — بدأوا بجمع هذه النصوص المنسية في مجموعات تحمل أسماء مثل Textos recuperados وTextos encontrados. لم تكن تلك النصوص مخطوطات غير منشورة، بل نصوصًا قد ظهرت سابقًا في الصحف والمجلات، لكنها لم تُدرج في أي كتاب. وهنا يكمن جوهر المفارقة التي يثيرها المقال: هل يجوز أن نعتبر هذه النصوص جزءًا من «العمل البورخسي» رغم أن المؤلف نفسه لم يختَرها لتكون ضمن مؤلفاته؟
أشعر أن هذا السؤال يتجاوز بورخس نفسه ليصل إلى طبيعة الأدب ذاتها. هل الأدب ملكٌ للكاتب أم للقُرّاء؟ هل تنتهي سلطة المؤلف بموته أم تظل تحكم مصير النصوص؟ أنيك لوي لا تقدّم إجابة قاطعة، لكنها تكشف لي — وأنا أقرأها — أن ما يحدث بعد موت الكاتب يشبه الزلزال الهادئ الذي يحرّك طبقات المعنى. فالنصوص المستبعدة تعود لتعيد تركيب الصورة، والهوامش تتحوّل إلى مركز، والتفاصيل الصغيرة التي لم يلتفت إليها أحد تصبح مفاتيح لتأويل جديد.
لكن المقال لا يكتفي بالحديث عن النصوص الإسبانية، بل يتناول الدور الذي لعبته الترجمات الفرنسية في توسيع هذه «القارة». فالترجمة، كما تقول الكاتبة، ليست مجرّد نقلٍ لغوي، بل هي عملية إعادة تأليف. المترجمون الفرنسيون — خصوصًا في الطبعات الشهيرة مثل Pléiade — لم يكتفوا بجمع ما كُتب، بل قدّموا للقارئ الفرنسي نسخة مختلفة من بورخس، نسخة أكثر فلسفية وأكثر تجريدًا.
أفكّر هنا في كتاب Labyrinthes الذي صدر عام 1953 بالفرنسية، والذي لا وجود له بالإسبانية في الشكل نفسه. هذا الكتاب خلق، في نظر كثير من القرّاء الأوروبيين، صورة بورخس ككاتبٍ ميتافيزيقي غامض، فيما كان في الواقع أيضًا ناقدًا اجتماعيًا وإنسانًا يكتب عن الهشاشة، عن الجمال الذي يتوارى في التفاصيل اليومية. لقد صنع المترجمون والنقّاد الفرنسيون بورخسهم الخاص، وربما أسّسوا فرعًا جديدًا من «القارة البورخسية» في اللغة الفرنسية.
ما يثير إعجابي في تحليل أنيك لوي هو قدرتها على تفكيك هذا التداخل بين النص والترجمة، بين الأصل والنسخة، بين إرادة المؤلف واختيار الناشرين. إنها تضع أمامي خريطة متحركة لا يمكن تثبيتها: في كل إصدار جديد تظهر حدود جديدة وتختفي أخرى، وكأنّ الأدب ذاته يخلق قاراته في كل قراءة. أشعر وأنا أقرأ المقال أن بورخس لم يمت، بل يتحوّل باستمرار، يُعاد توليده مع كل قارئ جديد ومع كل لغة جديدة.
لكن ما يهمني أكثر هو الفكرة الفلسفية التي تخرج من هذا كله: العمل الأدبي ليس كيانًا مغلقًا بل مشروعًا مفتوحًا. ما نعتبره «النص النهائي» ليس سوى لحظة في مسارٍ من التحوّلات. بعد موت الكاتب، تتغيّر طبيعة النصوص، لا لأنّ أحدًا يبدّلها عمدًا، بل لأنّ العالم من حولها يتغيّر. المقالات القديمة تُقرأ الآن في ضوء مفاهيم جديدة، والاهتمامات التي كانت هامشية في حياة الكاتب — مثل السياسة أو الترجمة أو العلاقة بالهوية — تصبح مركزية.
أفكّر في ذلك وأنا أتذكّر عبارة لبورخس نفسه: «كل مؤلف يخلق سلفه». ربّما كان يقصد أن القراءة تعيد كتابة التاريخ الأدبي من جديد. واليوم، حين أقرأ هذه النصوص التي جمعها الآخرون بعده، أشعر أن بورخس هو الذي كان يتنبأ بهذا المصير، مصير الكاتب الذي يصبح نصوصه أرضًا مفتوحة للبحث والاكتشاف.
المقال يجعلني أتأمل أيضًا العلاقة بين الحرية والتحكم في الإبداع. فبورخس، خلال حياته، كان يتحكم بدقّة فيما يُنشر، وكأنه يريد أن يحمي صورته الأدبية من التشتّت. أما بعد موته، فقد انفتحت بوّابات تلك الصورة على احتمالات لا حصر لها. الناشرون والباحثون والقرّاء استعادوا ما لم يرده هو أن يُستعاد، وبهذا المعنى تحرّر بورخس من بورخس نفسه. لقد أصبح «قارة» لأن حدوده لم تعد في يده.
إنّيك لوي تسمي هذا التمدد «الزمن الثاني للعمل الأدبي»، زمن ما بعد المؤلف، حيث تتشكّل النصوص مجددًا بفضل قرّاء لا يعرفهم الكاتب، وبفضل لغاتٍ لم يتحدثها. في هذا الزمن، لا يعود النص ملكًا لشخص، بل يتحوّل إلى فضاءٍ مشترك، تساهم فيه الترجمة والنقد والتحرير في خلق «أعمال جديدة» من مواد قديمة. وهكذا، تتحول فكرة «المؤلف الكامل» إلى وهمٍ جميل، لأن الأدب، كما تقول الكاتبة، «يعيش في تحول دائم».
أخرج من قراءة المقال بشعورٍ غريب: لقد أصبحتُ أنا نفسي جزءًا من هذه القارة. حين أقرأ نصًا لبورخس لم يكن يريد نشره في كتاب، أشعر أنني أمدّ يدي إلى الماضي لأكمل ما لم يكتمل. أشعر أن كل قارئٍ جديد يضيف جزيرةً جديدة إلى هذه القارة المترامية التي لا تنتهي حدودها، وأن الأدب الحقيقي هو الذي يسمح بهذا التوسع، لا الذي يغلق أبوابه عند حدّ واحد.
إنّ «قارة بورخس» ليست مجرد استعارة نقدية، بل تجربة وجودية في معنى القراءة والكتابة والزمن. ففيها تتداخل الحياة والموت، اللغة والأصل، الإرادة والصدفة. وكلما حاولت أن أحدد موقع بورخس في هذه الخريطة، اكتشفت أنني أضيع في متاهته من جديد — متاهةٍ لا تخيفني، بل تذكّرني بأن الكتابة، مثل القارة التي تحمل اسمه، لا تُكتشف مرّة واحدة، بل تُعاد ولادتها في كل قراءة جديدة.
0 التعليقات:
إرسال تعليق