الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


الأربعاء، أكتوبر 15، 2025

توما الأكويني: العقل والإيمان في قلب الفلسفة المسيحية: عبده حقي


 يُعدّ توما الأكويني (1225–1274) أحد أعمدة الفلسفة المدرسية (السكولاستيكية) في القرون الوسطى، وأحد أبرز المفكرين الذين سعوا إلى بناء جسر متين بين العقل والإيمان. عاش الأكويني في زمن كانت فيه أوروبا تموج بالتحولات الفكرية والدينية، حيث بدأ الفكر الفلسفي اليوناني والعربي يتسلل إلى الغرب اللاتيني من خلال الترجمات، وخاصةً أعمال أرسطو وابن سينا وابن رشد. في هذا السياق التاريخي المضطرب، برز الأكويني كمنظّر يحاول التوفيق بين الوحي المسيحي والعقل الفلسفي الأرسطي، فكانت فلسفته تجسيداً لمشروع معرفي ضخم هدفه إثبات انسجام الإيمان بالعقل.

1. من الدير إلى الجامعة: تكوين العقل اللاهوتي

وُلد توما الأكويني في عائلة نبيلة في جنوب إيطاليا، والتحق مبكراً برهبانية الدومينيكان التي كانت معروفة بتركيزها على التعليم والمناظرة. درس في جامعة باريس، التي كانت آنذاك مركزاً للحياة الفكرية في أوروبا، وهناك تأثر بالأفكار الفلسفية التي نقلها المسلمون إلى الغرب عبر الأندلس وصقلية. كانت كتابات أرسطو تُترجم وتُشرح بفضل فلاسفة مسلمين مثل ابن رشد، الذي شكّل أحد أكبر التحديات الفكرية للكنيسة في ذلك العصر. لكن الأكويني لم يرفض هذا الإرث العقلي، بل استخدمه كأداة لتقوية الإيمان.

2. الفلسفة في خدمة اللاهوت

رأى الأكويني أن الفلسفة ليست خصماً للوحي، بل خادمة له. وقد لخص هذا الموقف في قوله: “النعمة لا تُبطل الطبيعة بل تُكمّلها.” أي أن العقل البشري، رغم محدوديته، قادر على إدراك بعض حقائق الوجود من خلال التأمل المنطقي، بينما يأتي الوحي ليكمل ما يعجز العقل عن بلوغه. في هذا الإطار، أسس الأكويني ما يُعرف بـ"اللاهوت الطبيعي"، وهو المجال الذي يبحث في وجود الله وصفاته اعتماداً على البرهان العقلي وحده، دون الرجوع إلى النصوص المقدسة.

3. براهين وجود الله: بين المنطق والإيمان

من أشهر إسهاماته ما يُعرف بـ"الطرق الخمس" (The Five Ways) لإثبات وجود الله، والتي قدّمها في كتابه العظيم الخلاصة اللاهوتية (Summa Theologica). هذه الطرق لا تنطلق من الإيمان، بل من الملاحظة العقلية للعالم الطبيعي. فقد برهن الأكويني على وجود الله من خلال مفاهيم مثل الحركة، والعلّية، والضرورة، ودرجات الكمال، والنظام في الكون.
ففي “برهان الحركة”، يرى أن كل ما يتحرك لا بد له من محرّك أول لا يتحرك، وهو الله. وفي “برهان العلّية”، يؤكد أن كل موجود له سبب، ولا يمكن أن تكون هناك سلسلة لا نهائية من الأسباب، فلا بد من علّة أولى هي الله.
بهذه الطريقة، وضع الأكويني الأسس الأولى لما سيُعرف لاحقاً بالفكر العقلاني الديني، الذي يسعى لإثبات الإيمان بالحجة العقلية لا بالسلطة وحدها.

4. العلاقة بين الإيمان والعقل

طرح الأكويني سؤالاً مركزياً ظل يؤرق الفلاسفة إلى اليوم: كيف يمكن التوفيق بين الإيمان الذي يقوم على الوحي والعقل الذي يقوم على البرهان؟ أجاب الأكويني بأنّ هناك مستويين من المعرفة: معرفة طبيعية يدركها العقل، ومعرفة فائقة للطبيعة مصدرها الوحي. ولا تناقض بين المستويين لأن كليهما من الله. بهذا المعنى، لم يكن الأكويني عدواً للفلسفة، بل اعتبرها طريقاً ممهداً إلى الإيمان.
وقد مثّل هذا الموقف ثورة فكرية في عصرٍ كانت فيه الكنيسة تميل إلى الشك في الفلسفة باعتبارها خطراً على العقيدة. فبفضل الأكويني، أصبح بالإمكان دراسة الفلسفة في الجامعات الكاثوليكية دون خوف من اتهام بالهرطقة.

5. أثره في الفكر الغربي

امتد تأثير توما الأكويني إلى ما بعد القرون الوسطى، فقد شكلت فلسفته أساساً لما يُعرف بـ"المدرسة التوماوية" (Thomism)، التي أصبحت المرجع الرسمي للفكر الكاثوليكي منذ القرن التاسع عشر.
كذلك أثّر الأكويني في فلاسفة الحداثة مثل ديكارت وكانط، سواء بالموافقة أو بالنقد. فبينما انطلق ديكارت من الشك للوصول إلى اليقين العقلي، كان الأكويني قد سبق إلى التأسيس لفكرة أن العقل يمكن أن يقود إلى الله. كما استلهم مفكرون معاصرون مثل جاك مارتيان وإتيان جيلسون أفكاره في محاولة لإحياء “التوماوية الجديدة” التي تدافع عن القيم الروحية في عالم علماني مادي.

6. الأكويني والعالم الإسلامي

من اللافت أن الأكويني لم يكن معزولاً عن التأثير العربي-الإسلامي. فقد قرأ شروح ابن سينا وابن رشد على أرسطو، وحاورها بعمق في مؤلفاته. رفض ما رآه مبالغة من ابن رشد في القول باستقلال العقل عن الدين، لكنه استفاد من منهجه التحليلي ومن فكرته عن "العلّة الفاعلة الأولى". بهذا المعنى، يمكن القول إنّ مشروع الأكويني لم يكن أوروبياً صرفاً، بل ثمرة حوار طويل بين الحضارات.

7. إرث خالد في الفلسفة واللاهوت

يبقى توما الأكويني شخصية فريدة في التاريخ الإنساني، لأنه جمع في فكره بين صرامة العقل ورهافة الإيمان. استطاع أن يجعل من الفلسفة أداة لفهم الله لا لإنكاره، ومن اللاهوت منهجاً عقلانياً لا خرافياً. لهذا استحق أن يُلقّب بـ"دكتور الكنيسة" و"أمير اللاهوتيين".
وفي عالم اليوم، حيث تتصاعد النزاعات بين الدين والعلم، تظل فلسفته دعوة إلى الحوار والتكامل، وإلى الإيمان بأن الحقيقة واحدة مهما تعددت طرق الوصول إليها.

0 التعليقات: