الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


الأربعاء، أكتوبر 15، 2025

رواية المزيّف العميق: السرد في عصر ما بعد الحقيقة: عبده حقي


في زمنٍ تتهاوى فيه الحدود بين الواقع والوهم، وبين الذاكرة والاصطناع، تبرز ظاهرة "المزيّف العميق
" (Deepfake) بوصفها تجلّياً تكنولوجيّاً مذهلاً ومخيفاً في آنٍ واحد. لم يعد الأمر مقتصرًا على مقاطع الفيديو التي تُعيد خلق وجوهٍ وصوتٍ لمشاهير أو سياسيين في سياقات مختلقة، بل امتدّ إلى السرد الأدبي نفسه، حيث أصبح بالإمكان تخليق روايات كاملة بصوت كتّاب راحلين أو بنبرة أسلوبهم، كما لو أن فيودور دوستويفسكي أو غابرييل غارسيا ماركيز بعثا من جديد لكتابة فصلٍ جديد في روايات لم يكتبوها قط. هنا تتبدّى الأسئلة الأخلاقية والجمالية بحدة: ما معنى "الأصالة" في زمن تُستنسخ فيه الهُوية الفنية كما يُستنسخ الوجه في مختبر البيانات؟

يتقاطع هذا التحوّل مع ما يسميه الفيلسوف جان بودريار بـ"المحاكاة الفائقة" (hyperreality)، أي تلك اللحظة التي يصبح فيها التمثيل أكثر واقعية من الواقع ذاته. فالرواية في عصر الذكاء الاصطناعي لم تعد تروي العالم، بل تصنعه. لم يعد الروائي شاهداً على الواقع، بل شريكاً في إعادة بنائه رقمياً. والنتيجة أن النص الأدبي يفقد شيئاً من "جوهريّته" القديمة بوصفه شهادة إنسان على العالم، ليتحوّل إلى منتج تشاركي بين الإنسان والخوارزمية، بين الخيال والإحصاء، بين الذاكرة والبيانات.

ولعلّ ما يثير القلق أكثر هو انزياح مفهوم "الكاتب" من كائنٍ إنساني إلى منظومة من الخوارزميات القادرة على "محاكاة" الحسّ الإبداعي. كما أشار الناقد ريتشارد كيتنغ في مقاله "The Ethics of AI Authorship" (مجلة  AI & Society, 2023، فإننا نعيش لحظة يختلط فيها المؤلف بالمحرّك، والعبقرية بالبرمجة. فـ"رواية المزيّف العميق" ليست مجرد خيانة للأصالة الأدبية، بل إعادة تعريف لمفهوم الإبداع نفسه. من يمتلك النص؟ هل هو المبرمج الذي كتب الخوارزمية؟ أم النظام الذي أنتج النص؟ أم القارئ الذي يمنحه المعنى؟

إن التحوّل السردي الذي يفرضه هذا الواقع لا يمكن فصله عن ظاهرة ما بعد الحقيقة (Post-truth)، حيث تغدو المشاعر والانطباعات أقوى من الوقائع. وهنا تستعيد الأدب وظيفة جديدة: لا في تأكيد الحقيقة، بل في مساءلتها. فكما يقول سلافوي جيجك في كتابه Like a Thief in Broad Daylight، " (مثل لص في وضح النهار) لم يعد التحدي في معرفة الحقيقة، بل في القدرة على تمييزها وسط زحام الحقائق المصطنعة". وبهذا المعنى، فإن رواية المزيّف العميق تمثّل تجسيداً فنيّاً لأزمة الثقة في العصر الرقمي، حيث الحقيقة لم تعد تُكتشف، بل تُنتَج وتُسوَّق.

في المقابل، يرى بعض النقاد أن هذا الانقلاب ليس بالضرورة سلبياً، بل هو شكل جديد من الديمقراطية الإبداعية. فالتقنيات التي تولّد النصوص تتيح لغير الكتّاب أن يشاركوا في الخلق الأدبي، مذكّرين بما قاله رولان بارت في مقاله الشهير "موت المؤلف": إن المعنى يولد في لحظة القراءة، لا في لحظة الكتابة. فإذا كان المؤلف قد مات في القرن العشرين، فها هو يُبعث رقمياً في القرن الحادي والعشرين، لكن بملامح خوارزمية.

يبقى السؤال الجوهري هو: هل ما يُنتَج بواسطة الذكاء الاصطناعي يحمل روحاً فنية حقيقية، أم أنه مجرد "قناع رقمي" لأرواح غائبة؟ إن الرواية، كما يعرفها الناقد المغربي عبد الفتاح كيليطو، ليست مجرد سرد للأحداث بل "اختبار للهوية عبر اللغة". لكن ماذا لو أصبحت اللغة نفسها ناتجاً لآلة لا تمتلك هوية؟ ألا يُفرغ ذلك الأدب من بعده الإنساني الذي يجعله شهادة على الوجود؟

في النهاية، تكشف "رواية المزيّف العميق" عن مفارقة العصر الرقمي: كلما اقتربنا من إعادة خلق الإنسان تقنيّاً، ازددنا ابتعاداً عن جوهره. فالإبداع، في جوهره، ليس محاكاةً بل مقاومة. مقاومةٌ للزيف، للنمط، وللنسيان. وربما لهذا السبب بالذات، ستبقى الرواية — رغم كل تقنيات التزييف — آخر معقلٍ للحقيقة الإنسانية في زمنٍ أصبح فيه كل شيء قابلاً للتوليد… حتى الوهم ذاته.


0 التعليقات: