الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


إعلانات أفقية

الثلاثاء، أكتوبر 21، 2025

"العدميون الجدد في زمن القوة المغربية الصاعدة" عبده حقي


في الشهور الأخيرة، تفاقمت آراء عدميّة داخل بعض الأوساط الشبابية المغربية، لتتبنّى خطاباً سوداويا ومهيناً لكل ما تحقق في البلاد خلال ربع قرن من الإصلاح والتقدم. هؤلاء الذين يعيشون بيننا، لكنهم يصرّون على التبرؤ من كل إنجاز وطني، يُشكّلون اليوم ظاهرة صوتية سلبية وخطيرة، ليس لأنها تعبّر عن رأي مخالف، بل لأنها تقوم على إنكار الحقيقة وتحقير الذات الوطنية.

فمنذ بداية الألفية، والمغرب يخوض تجربة انتقال ديمقراطي واقتصادي غير مسبوقة في تاريخه الحديث، شملت إصلاحات دستورية وهيكلية، وتنمية شاملة امتدت من طنجة إلى الداخلة، ومن وجدة إلى العيون. فقد استطاع هذا البلد العريق أن يتحول من اقتصاد هشّ يعتمد على قطاعات تقليدية ومحدودة، إلى قوة إقليمية وإفريقية متنوّعة الموارد، رائدة في مجالات الطاقة المتجددة والصناعات التحويلية والتركيبية والقطاع البنكي الإفريقي. غير أنّ العدميين، في غفلتهم أو حقدهم، يرفضون الاعتراف بهذه التطورات الواضحة للعميان، وكأنهم يعيشون في وطن آخر، أو يقرأون من مصادر لا علاقة لها بالواقع.

العدمية في جوهرها ليست فكراً معارضاً ولا قراءة نقدية، بل هي حالة من الإنكار المرضي لكل قيمة، ونزعة لتعميم الفشل وتبخيس النجاح. فحين ينتقد العدميّ، لا يفعل ذلك بحثاً عن بديل، بل ازدراء للواقع وإرضاءً لغضبٍ وحقد دفين. لهذا تتحول العدمية في الحالة المغربية إلى مشروع تخريبي يهدف إلى زعزعة النظام والثقة في المؤسسات، وتدمير المعنويات العامة، وتيئيس الشباب من جدوى الإصلاح.

في المقابل، يحق لأي مواطن أن ينتقد، لكن النقد النزيه يختلف عن الجلد المجاني للذات. إن النقد يبني، أما العدمية فتهدم. النقد يسائل السلطة من داخل الوطن، أما العدميّ فيعلن الحرب على الدولة من داخلها، وهو يعيش من خيراتها، ويستفيد من أمنها واستقرارها.

ما يزيد المشهد تعقيداً أنّ شباب جيل Z، الذين وُلدوا في زمن الإنترنت والانفتاح، أصبحوا هدفاً سهلاً للعدميين. هؤلاء يغذّونهم بخطابات سوداوية عبر المنصات الرقمية، يصورون لهم المغرب بلداً منهاراً، ويغرسون فيهم فكرة أن لا أمل في المستقبل. لكنّ المفارقة الصارخة أن هذا الجيل نفسه هو ثمرة الإصلاحات التعليمية والبنى التحتية الرقمية التي جعلت المغرب رائداً في التحول الرقمي الإفريقي.

من غير المنصف أن يُختزل الوطن في أخطاءٍ محدودة أو نقائص ظرفية عابرة. فجيل Z نفسه، الذي يتواصل اليوم بحرية، ويناقش ويعبّر في فضاءات مفتوحة، هو نتاج تجربة مغربية نجحت في توسيع هامش الحريات وترسيخ المؤسسات الدستورية.

لا يمكن لأي مراقب موضوعي أن يتجاهل التحول الكبير الذي عرفه المغرب في مختلف المجالات. ففي السياسة، أصبح لاعباً مؤثراً في الساحة الإفريقية والمتوسطية، يفاوض القوى الكبرى من موقع الندّية. وفي الاقتصاد، تحول إلى مركز استثماري إقليمي يقود مشاريع البنية التحتية والطاقة النظيفة. أما في المجال الرياضي، فقد صار عنواناً للنجاح والانضباط بعد الإنجازات التاريخية لمنتخباته الوطنية، مما جعل اسم المغرب يتردد في المحافل الدولية كرمزٍ للإصرار والطموح.

ورغم هذه التحولات، ما تزال العدمية تنكر هذا الواقع، مدفوعةً أحياناً بجهلٍ سياسي، وأحياناً أخرى بتحريضٍ خارجي يتغذّى من فشل أنظمة إقليمية مجاورة ترى في المغرب نموذجاً مهدداً لنفوذها. ولهذا تتحول بعض الحسابات العدوانية إلى أبواقٍ تزرع الفتنة بين الشباب، وتستغل احتجاجاتهم لتقويض الاستقرار الذي هو أساس التنمية.

لقد بنى المغرب تجربته بالتدرج لا بالشعارات، وبالعمل الميداني لا بالادعاءات. ومع ذلك، لا يخلو هذا المسار من صعوبات وتحديات، بعضها اجتماعي وبعضها اقتصادي. لكن الاعتراف بالتحدي لا يعني إنكار التقدم. فالتاريخ لا يرحم الشعوب التي تنكر إنجازاتها. ومن يصرّ على النظر إلى النصف الفارغ من الكأس، سيبقى أسيراً لليأس والعجز.

المغرب اليوم لا يحتاج إلى المصفقين ولا إلى العدميين، بل إلى مواطنين ناقدين بوعي، حريصين على البناء والإصلاح، مؤمنين بأن الوطن ليس فندقاً يُغادره المرء حين تسوء الخدمة، بل بيتٌ يُصلحه أبناؤه بأيديهم. فكل من يدعو إلى الفوضى باسم الحرية، أو ينشر الكراهية باسم النقد، إنما يخدم أجنداتٍ معادية للوطن.

إنّ أخطر ما يمكن أن يُصيب أمةً هو أن تفقد الثقة بنفسها. والمغرب، الذي شقّ طريقه وسط العواصف الإقليمية، لا يمكن أن يُهزم من الداخل، ما دام أبناؤه المؤمنون بالمستقبل يقظين، يردّون بالحكمة على خطاب العدمية، وبالعمل على خطاب التشكيك.

لقد آن الأوان لتجديد الوعي الوطني، وتعميق النقاش الجاد حول قضايا الإصلاح والتنمية دون انزلاق إلى جلد الذات أو خدمة أجندات الكراهية. فالمغرب، في نهاية المطاف، ليس مثالياً، لكنه قصة نجاح واقعية في عالمٍ عربي مثخن بالإخفاقات، وتجربته تستحق النقد البناء لا التدمير العدمي.

0 التعليقات: