الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


إعلانات أفقية

الثلاثاء، أكتوبر 21، 2025

محاورات بين فلاسفة ومفكرين معاصرين (16) بوذا وتلاميذه: عبده حقي


المقدمةفي القرن الخامس قبل الميلاد، حين كانت الهند تغلي بأسئلة الوجود والمعاناة، ظهر سيدهارتا غوتاما، الملقب ببوذا، كصوتٍ يتجاوز صخب الطقوس والعقائد نحو تجربة داخلية خالصة تبحث عن الخلاص من الألم. لم يكن خطابه تنظيراً فلسفياً مجرداً، بل حواراً مفتوحاً مع تلاميذه، سجلته نصوص الـ«دهَمّابادا» والسوترا الأولى، لتغدو لاحقاً مناراتٍ روحية وأخلاقية أرست أسس البوذية كمنظومة فكرية وأسلوب حياة. في تلك الحوارات، تتجلى رؤية بوذا للعالم لا كمعركة بين قوى الخير والشر، بل كرحلة نحو التوازن، نحو «الطريق الأوسط» الذي يجمع بين الزهد والعقل، بين الجسد والروح، بين الذات والعالم.

في حوارات بوذا مع تلاميذه، لا نجد معركة فكرية على غرار محاورات سقراط أو سجالات الحكماء، بل نجد خطاباً يتخذ من الصمت والتأمل لغةً، ومن التجربة الشخصية برهاناً. إنّ الـ«دهَمّابادا» ليست مجرد نص ديني، بل هي بناء فلسفي يطرح مفهوماً جديداً للأخلاق والمعرفة، قوامه الإدراك العميق لحقيقة المعاناة، والوعي بأن التحرر لا يأتي من الخارج بل من الانضباط الداخلي.

يبدأ بوذا من سؤال بسيط وعميق في آن: لماذا نعاني؟ في إجابته تتجسد نواة فلسفته كلها: المعاناة تنشأ من التعلق، من رغبة لا تعرف الاكتفاء. هنا تتجلى ثوريته الفكرية؛ إذ بدل أن يعزو الألم إلى قوى غيبية أو عقابٍ سماوي، أعاده إلى أصل نفسي-إنساني يمكن تجاوزه بالوعي والتأمل. إنها رؤية تضع الإنسان في مركز الكون الأخلاقي، لا ككائن خاضع، بل كفاعل قادر على تحرير ذاته.

ومن هذا المنطلق، تتأسس الأخلاق البوذية على أربعة حقائق نبيلة: وجود الألم، وأسبابه، وإمكانية زواله، والطريق المؤدي إلى ذلك الزوال. هذا الطريق، الذي سيسمى لاحقاً «الطريق الثماني النبيل»، هو جوهر التجربة البوذية: رؤية صحيحة، نية صحيحة، قول صحيح، فعل صحيح، عيش صحيح، جهد صحيح، وعي صحيح، وتركيز صحيح. في هذه البنية المنهجية، نجد التقاء الأخلاق بالميتافيزيقا، حيث يتحول العمل الأخلاقي إلى وسيلة لتحرير الوعي من دائرة الولادة والموت (السامسارا).

في إحدى الحوارات، سأل أحد التلاميذ بوذا: «يا معلّمي، ما هو الخير؟» فأجابه: «أن تطفئ جذوة الكراهية والرغبة والجهل، ففي إطفائها يولد السلام». هذه الإجابة تختصر الفلسفة كلها في فعلٍ أخلاقي بسيط لكنه عميق: أن تعرف نفسك عبر تهذيب رغباتك، لأنّ الوعي بالذات هو أولى درجات الاستنارة. الأخلاق هنا ليست أوامر سماوية، بل تدريب على الوعي، ممارسة متدرجة تُنقّي الإدراك حتى يصير الإنسان مرآةً تعكس الحقيقة دون تشويه.

أما في الجانب الميتافيزيقي، فبوذا يقلب المفهوم التقليدي للذات رأساً على عقب. الذات ليست جوهراً ثابتاً كما افترض الفلاسفة الهندوس، بل تدفق متغير من العناصر الخمسة: الجسد، الإحساس، الإدراك، العادات، والوعي. كل ما نعدّه «أنا» ليس سوى تفاعل مؤقت بين هذه العناصر، لذا فالتمسك بها وهمٌ، والحرية تبدأ من إدراك هذا الوهم. هذه النظرة العميقة تفتح أفقاً وجودياً جديداً يجعل الزوال جزءاً من الحقيقة، لا خصماً لها.

تظهر في هذه الحوارات أيضاً نزعة إنسانية مبكرة تُنادي بالرحمة كقيمة كونية. فالمخلوقات جميعاً، في نظر بوذا، تشترك في السعي إلى السعادة والهروب من الألم، ومن هنا تنبثق فكرة «اللاعنف» (أهيِمسَا) التي أصبحت لاحقاً ركيزة في الفكر الشرقي كله، من غاندي إلى الفلسفة الحديثة للسلام.

لكن ما يجعل هذه النصوص خالدة ليس بعدها الديني أو الأخلاقي فحسب، بل عمقها التأويلي المفتوح. فالقارئ الحديث، وسط ضجيج العصر الرقمي وتيه الاستهلاك، يمكن أن يجد فيها دعوةً إلى التوازن الداخلي والبطء الواعي، إلى العودة من عالم السرعة إلى لحظة الصمت. وكأنّ بوذا، عبر قرون، يخاطب الإنسان المعاصر قائلاً: «إنك تركض نحو السعادة، بينما هي فيك».

إنّ «دهَمّابادا» و«السوترا المبكرة» ليستا نصوصاً مغلقة، بل نظام تفكير يعيد تعريف العلاقة بين الفكر والروح. فبدل أن يكون الفيلسوف متعالياً على العالم، يصبح متأملاً فيه، وبدل أن يكون العلم غاية، يصير وسيلة لفهم الذات. هذه النزعة التأملية جعلت من البوذية فلسفة أخلاقية قبل أن تكون ديانة، وجعلت من بوذا نموذجاً للفيلسوف المعلم الذي يجمع بين الحكمة والمعاناة في وحدة إنسانية واحدة.

وفي المحصلة، يمكن القول إنّ حوارات بوذا مع تلاميذه أرست معالم ثورة داخلية صامتة في تاريخ الفكر الإنساني. فهي لم تَعِد بالخلاص في السماء، بل اقترحته في قلب الإنسان، في وعيه وتهذيبه ومساره نحو النور. وإذا كانت الفلسفات اللاحقة قد سعت إلى تفسير العالم، فإنّ بوذا دعا إلى تغييره من الداخل، من حيث تبدأ كل ثورة حقيقية: من الذات.

0 التعليقات: