الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


الثلاثاء، مايو 20، 2025

الصحافة اليوم بين التزييف والحقيقة، بين الترفيه والتغيير المناخي: عبده حقي


في عالم تهيمن عليه السرعة والمعلومة، تدخل الصحافة مرحلة جديدة من التحول من الورق إلى الخوارزميات، ومن الصوت البشري إلى التأثير الافتراضي. لم تعد غرف الأخبار تحكمها أقلام المراسلين التقليديين فقط، بل بات الذكاء الاصطناعي، والمراسلون المحمولون، والمُؤثرون الرقميون، وحتى الرياضات الإلكترونية، من بين أهم الفاعلين في المشهد الإعلامي. ويبدو أن هذا المشهد الجديد لا يخلو من تناقضات: ففي الوقت الذي تسهّل فيه التكنولوجيا الوصول إلى الحقيقة، فإنها تفتح الباب واسعاً أمام التزييف والخداع.

الذكاء الاصطناعي ككاشف للزيف ومهندس للمعلومة

أحد أبرز أدوار الذكاء الاصطناعي اليوم يتمثل في قدرته على «رصد الأخبار الكاذبة» بسرعة تتفوق على العين البشرية. من خلال تقنيات التعلّم العميق ومعالجة اللغة الطبيعية، أصبحت الأنظمة الذكية قادرة على تحليل بنية النصوص، والتحقق من المصادر، وحتى التعرّف على أنماط التلاعب السردي. غير أن المفارقة تكمن في أن هذه التكنولوجيا ذاتها تُستخدم لإنتاج محتوى مضلل بطرق يصعب اكتشافها. فبين كشف الأكاذيب وصناعتها، يبقى الذكاء الاصطناعي سيفاً ذا حدين.

صحافة التحقيق في العصر الرقمي:

مع هذا الزخم الرقمي، تواجه «الصحافة الاستقصائية» تحديات بنيوية، ولكنها أيضاً تملك أدوات غير مسبوقة. لقد أصبحت الوثائق المُسربة، وتحليل البيانات الضخمة، وتقنيات التصوير الحراري والطائرات دون طيار، أدوات في متناول الصحفي المحقق. لكن الضغط المالي، وسيطرة المنصات الكبرى، وتزايد الرقابة الرقمية، تضع هذه المهنة على المحك. السؤال الحاد اليوم ليس فقط: "ما الذي يمكن للصحفيين اكتشافه؟"، بل "هل سيسمح لهم أحد بذلك؟"

صحافة الموبايل في دول الجنوب: الكاميرا التي لا تنام

في البلدان النامية، حيث تندر البنى التحتية الإعلامية، ظهرت «صحافة الهاتف المحمول (MoJo)  كبديل ثوري وفعال. من خلال هاتف ذكي فقط، يستطيع الصحفي إنتاج خبر متكاملا نصاً وصورة وصوتاً، ما مكن فئات مهمشة من رواية قصصها. في إفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية، صار الهاتف النقال أداة مقاومة وكشف، ونافذة على واقع لا تراه عدسات الإعلام التقليدي.

المُؤثرون الافتراضيون: ثقة مزيفة في وجوه غير موجودة

في تناقض صارخ مع الصحفيين الميدانيين، يبرز اليوم دور «المؤثرين الافتراضيين» وهم شخصيات رقمية مصمّمة بالذكاء الاصطناعي تحاكي البشر في الشكل والسلوك. هؤلاء "الروبوتات الاجتماعية" باتوا يروجون لمنتجات، بل حتى لـ"أفكار إخبارية"، عبر شبكات التواصل. غير أن استخدامهم يطرح أسئلة عميقة حول «مصداقية الأخبار»: كيف نثق بوجه لا وجود له؟ وكيف نفرّق بين التفاعل الحقيقي والتأثير المبرمج؟

المناخ والإعلام الرقمي: من التحذير إلى الحشد

ربما يكون «تغير المناخ» من أبرز القضايا التي كشفت حدود الصحافة التقليدية، ومنحت الصحافة الرقمية دوراً مضاعفاً. إذ تتيح البيانات التفاعلية، وتقارير الفيديو القصير، والمحاكاة الثلاثية الأبعاد، إيصال حجم الأزمة المناخية بطرق مؤثرة وسهلة الفهم. لقد بات بإمكان القارئ اليوم أن يرى بالعين المجردة ذوبان الجليد، أو يسمع نبض الغابات المحترقة، ما يحفّز الوعي ويقود إلى الضغط المجتمعي.

الرياضة الإلكترونية والصحافة: منافسة خارج الملعب

حتى في مجال الرياضة، لم تعد المنافسة محصورة في الملاعب. فقد نشأت «صحافة الرياضات الإلكترونية» كفرع حديث يواكب نمو صناعة الألعاب الرقمية. هذه الصحافة لا تكتفي بتغطية البطولات، بل تحلل استراتيجيات اللعب، وتُجري مقابلات مع نجوم افتراضيين لهم ملايين المتابعين. وبهذا باتت تُهدد الصحافة الرياضية التقليدية، التي تأخرت كثيراً في فهم هذا الجمهور الجديد.

التخصيص المفرط للأخبار: الفقاعة الجديدة

وفي قلب كل هذه التحولات، يقف الذكاء الاصطناعي مرة أخرى، «يخصّص الأخبار» لكل فرد حسب سلوكه وتفضيلاته. هذا يبدو مريحاً، لكنه في الواقع يُحاصر القارئ في "فقاعة معرفية"، تمنعه من رؤية وجهات نظر مختلفة. وهكذا، بدل أن تُوسّع الصحافة مداركنا، تكرّس تحيّزاتنا، وتصير مرآة مغلقة على رغباتنا المعلبة مسبقاً.

خاتمة: صحافة بين الحافة والأمل

إننا لا نعيش فقط عصر تحوّل صحفي، بل عصر صراع على معنى الحقيقة نفسه. في كل هاتف ذكي كاميرا قادرة على كشف الفساد، وفي كل خوارزمية احتمال لتزييف الحقائق. في الوقت الذي تتهدد فيه الصحافة التقليدية بالانقراض، تولد نماذج جديدة—بعضها واعد، وبعضها مريب.

ويبقى السؤال معلقًا:

هل يمكن أن نجعل من الذكاء الاصطناعي خادمًا للحقيقة لا سجانًا لها؟

وهل تستطيع الصحافة الرقمية أن تبني مستقبلاً أكثر عدالة، لا مجرد واقع أكثر ترفيهاً؟

0 التعليقات: