قبل عدة شهور اطلق خبراء تحذيرات صريحة عبر الإعلام الجزائري من مغبّة التفريط في مشروع الغاز الاستراتيجي الذي يربط الجزائر بنيجيريا، المعروف بأنبوب الغاز العابر للصحراء (TSGP) ورغم أن فكرة هذا المشروع تعود إلى سبعينيات القرن الماضي، إلا أن أولى خطواته الرسمية لم تبدأ إلا عام 2001، ليتبعها إعلان رسمي في 2002، ثم تتوالى السنوات دون أن يرى الأنبوب النور، رغم أهميته القصوى لمستقبل الجزائر الطاقي.
TSGP هو مشروع ضخم، يمتد على مسافة تقارب 4400 كيلومتر، ويهدف إلى نقل الغاز
النيجيري نحو أوروبا عبر النيجر ثم الجزائر. جزء كبير من هذا الأنبوب يمر عبر الأراضي
الجزائرية، ويُفترض أن يوفر تدفقات تقارب 30 مليار متر مكعب سنويًا، أي ما يعادل تقريبًا
صادرات الجزائر الحالية من الغاز إلى أوروبا. لكن الواقع مختلف تمامًا عن التصور.
ففي الوقت الذي تحتاج
فيه الجزائر إلى تعويض النقص الحاد المتوقع في إنتاجها المحلي – خصوصًا مع التراجع
المرتقب لحقولها الكبرى مثل "حاسي الرمل" بحلول عام 2030 – يقف المشروع مكانه
دون أي تمويل فعلي أو تقدم تقني يُذكر. ويكفي أن نعود إلى تصريحات وزير الطاقة محمد
عرقاب خلال منتدى الجزائر في مارس 2024، حين قال إن المشروع ينقصه فقط 1800 كيلومتر،
لنكتشف أن الجمود لا يزال سيد الموقف بعد عام كامل من ذلك التصريح.
الأمر يزداد تعقيدًا
مع التوترات الدبلوماسية المتسارعة بين الجزائر ودول الساحل، وفي مقدمتها النيجر. فحادثة
الطائرة المسيّرة التي اتُّهم الجيش المالي بإسقاطها في مارس 2025 أدت إلى سحب السفراء
بين الجزائر وثلاث دول من تحالف الساحل (النيجر، مالي، بوركينا فاسو). هذه القطيعة
السياسية لا تهدد فقط المشروع، بل تقضي فعليًا على إمكانيات استمراره، بعدما أُشيع
عن قرار نيجري بتجميد مشاركته في TSGP
وعلى الطرف الآخر من
القارة، يمضي المغرب بسرعة وثقة في إنجاز مشروعه الموازي: أنبوب الغاز نيجيريا–المغرب.
مشروع تم الإعلان عنه في 2016 خلال زيارة الملك محمد السادس إلى أبوجا، لكن ما بدأ
كفكرة دبلوماسية تحوّل إلى مخطط تنفيذي يمتد على أكثر من 5660 كيلومترًا، يعبر 13 دولة
إفريقية، وينتهي في الأراضي المغربية، ليكمل رحلته نحو أوروبا.
الفرق بين المشروعين
بات صارخًا. بينما يغرق مشروع الجزائر في وحل التأجيلات والخلافات، يحصد المغرب دعماً
دولياً ملموساً. ففي أبريل 2025، أعلن وزير المالية النيجيري من واشنطن عن رغبة أمريكية
في الاستثمار بالمشروع المغربي. تبعتها تصريحات وزيرة الطاقة المغربية ليلى بنعلي بإعلان
مساهمة الإمارات العربية المتحدة في التمويل، بالإضافة إلى دخول لاعبين دوليين مثل
البنك الإسلامي للتنمية، وصندوق أوبك، والبنك الأوروبي للاستثمار، وشركات صينية تنفذ
مراحل من المشروع فعليًا.
ولعل الخطوة الأكثر
دلالة هي انطلاق المشروع المغربي من مدينة الداخلة بالصحراء المغربية، وهو اختيار رمزي
وقانوني يحمل في طياته رسالة جيوسياسية حادة، تؤكد سيادة المغرب وترسّخ المشروع كرافعة
دبلوماسية واقتصادية في آنٍ واحد.
إذا وُضعنا أمام المقارنة
المجردة: الجزائر التي تملك 2400 مليار متر مكعب من احتياطي الغاز، تواجه تحديات داخلية
في تأمين حاجتها، إذ تجاوز الاستهلاك المحلي نسبة 60% من الإنتاج منذ 2023. في المقابل،
نيجيريا تسبح على بحر من الغاز يقدر بـ5500 مليار متر مكعب، وتبحث عن شريك يضمن الاستقرار،
ويمنحها قناة عبور فعالة نحو أوروبا. ومع تضعضع العلاقات الجزائرية-الإفريقية، يبدو
أن المغرب ينجح في تقديم نفسه كالشريك الأنسب.
كل هذا يجعل خسارة
الجزائر في هذا السباق أكثر من مجرد فشل اقتصادي. إنه نزيف استراتيجي قد يكلّف البلاد
عشرين مليار دولار سنويًا من عائدات الغاز، ويهزّ دعائم الأمن المالي، ويقوّض قدرة
الدولة على تمويل مشاريعها الاجتماعية والدفاعية، بل ويمسّ موقعها الدولي كلاعب طاقي.
في ضوء المؤشرات الراهنة،
يبدو أن أنبوب الغاز نيجيريا–المغرب لم يعد مجرد حلم جيو-اقتصادي، بل مشروع يتحول تدريجيًا
إلى واقع مدعوم بإرادة سياسية صلبة، وتمويلات متعددة الجنسيات، وشبكة دبلوماسية فعالة
استطاع المغرب بناؤها بذكاء في إفريقيا وخارجها. هذا الأنبوب ليس فقط مسارًا للطاقة،
بل أيضًا مسار لتثبيت النفوذ وتعزيز السيادة وترسيخ الحضور المغربي في معادلات الطاقة
العالمية.
في المقابل، مشروع
الجزائر يبدو وكأنه يترنح تحت وطأة التردد السياسي، وانهيار الثقة مع دول الجوار، وغياب
الرؤية الاستراتيجية الواضحة. وإذا استمر هذا الجمود، فإن أنبوب TSGP لن يكون إلا ذكرى لمشروع ضائع، تحوّل من فرصة
تاريخية إلى شاهد على فشل هندسة المصالح الحيوية.
إنّ رهان الطاقة في
إفريقيا لم يعد ينتظر المترددين، ومن لا يملك القدرة على التكيف والبناء والتحالف،
سيتجاوزه الزمن. ومثلما انطلقت قاطرة المغرب من الداخلة بثبات نحو أوروبا، فإن المشروع
الجزائري، بكل ثقله الرمزي، يبدو اليوم عالقًا في الرمال المتحركة للصحراء.
0 التعليقات:
إرسال تعليق