كيف يمكننا أن نحافظ على فضاءات التعبير الرقمي الحر من جهة، دون أن نغض الطرف عن طوفان الكراهية والتضليل والخطابات العنيفة التي تنتشر كما النار في هشيم الغضب الجماعي؟
إن عالمنا الجديد لم يعد يحتاج إلى ميادين مادية للتظاهر أو الاحتجاج. لقد تحوّلت وسائل التواصل الاجتماعي إلى ما يشبه "ساحة القرية الرقمية" — تعبير استعمله الملياردير إيلون ماسك عند شرائه منصة "تويتر"، وكأنه يعيد استحضار صورة الديمقراطية الإغريقية، حيث يجتمع المواطنون لا لتبادل السلع، بل لتبادل الآراء. لكن، هل بقيت هذه الساحة فعلاً مفتوحة لكل الأصوات، أم أنها أصبحت ساحة مراقبة لا مرئية تحكمها خوارزميات وضوابط مشفرة؟
أتابع عن كثب، كما
فعلت الصحفية جيل ليبوت في تحقيقاتها بـ «The New Yorker»، كيف أصبحت خوارزميات التصفية والاقتراح
تحدد لنا، عن وعي أو عن غفلة، ما نقرأه وما نراه، بل حتى ما نعتقده. وكأننا لم نعد
نختار بأنفسنا، بل هناك عقل خفي، يوجه تجربتنا الرقمية، وفق منطق لا يعترف لا بالحق
في الاختلاف ولا حتى بالحق في الخطأ.
وربما كان ما كتبته
الباحثة «Safiya
Umoja Noble» في كتابها
الشهير Algorithms
of Oppression،
هو الأكثر تعبيراً عن هذه المعضلة الأخلاقية، إذ كشفت كيف أن محركات البحث ليست بريئة،
بل تعكس تحيّزات ثقافية وعنصرية مضمرة. ومثل هذه الخلاصات يجب أن تكون دافعاً لنا،
نحن المتابعين للشأن الرقمي المغربي والعربي، لإعادة التفكير في من يضبط هذه الخوارزميات،
ومن يمنح نفسه سلطة "تنظيف" الفضاء الرقمي من "الضجيج"، ومن يقرر
ما هو ضجيج أصلاً.
في المغرب، كما في
العديد من الدول، لا تزال الهيئات التشريعية متأخرة كثيراً عن الواقع المتحوّل. وبينما
تشتد دعوات المجتمع المدني إلى سن قوانين تضمن حرية التعبير وتحمي في الآن ذاته الأفراد
من التنمر والتشهير، تبرز محاولات رسمية للضبط الرقمي قد تتحول بسهولة إلى أدوات للرقابة
المبطّنة. وهنا، تكمن الخطورة.
الخط الرفيع بين التنظيم
والرقابة، بين حماية المجتمع وفرض الوصاية عليه، يشبه ذاك الخيط الذي يربط الحد بين
الضوء والظل. ولعلنا نتذكر ما كتبته هناء فريدمان في مقالها بـ «Foreign Affairs» الشؤون الخارجية حول معضلة إدارة منصات التواصل، عندما شبّهت عملية الموازنة
بين الحرية والضبط بـ"السير على الحبل المشدود فوق نهر من اللهب".
من جهتي، لا أرفض مبدئياً
التدخل التنظيمي، بل أراه أحياناً ضرورياً، خصوصاً في مواجهة الحملات المنسقة التي
تهدف إلى تقويض السلم الاجتماعي، كما حدث إبان جائحة كورونا من تضخيم نظريات المؤامرة.
لكن ما أرفضه، هو غياب الشفافية. أرفض أن يتحول "تنظيم المحتوى" إلى ذريعة
لإسكات الأصوات المعارضة، أو لتكريس الصوت الواحد.
ثم هناك سؤال لا مفر
منه: من يحمي المواطن المغربي من تسلّط الشركات الكبرى ومن تساهل الحكومات المحلية؟
هل نحن محصنون قانونياً ضد انتهاكات "الميتا" و"غوغل" و"تيك
توك"؟ هل لدينا هيئات مستقلة فعلاً ترصد وتراقب وتُحاسب؟ الجواب حتى الآن لا يزال
غامضاً.
وإذا كان النموذج الأوروبي
قد خطا خطوات مهمة نحو "السيادة الرقمية"، كما ظهر جلياً في «قانون الخدمات
الرقمية الأوروبي
(DSA)»، فإننا في المنطقة المغاربية، لا نزال نفتقد إلى رؤية إقليمية واضحة،
تجمع بين الحماية والحريات.
وباعتباري كاتبا يحاول
أن يظل مستقلاً في نظرته، أرى أن المطلوب اليوم ليس فقط تنظيم "المنصات"،
بل إعادة بناء الثقة الرقمية بين الدولة والمواطن. لا يمكن لأي قانون أن ينجح، إن لم
يُصغَ بتشاركية، ولا يمكن لأي تنظيم أن يكون شرعياً، إن لم يُسَنَّ على أساس الحوار
المجتمعي، لا على منطق التعليمات الفوقية.
إنني أكتب هذا المقال
وأنا أعي أن المستقبل سيكون رقمياً أكثر فأكثر، وأن الكلمة الحرة، مثلما كانت عبر التاريخ،
ستظل تتحدى الحجب والقمع. ولكن يبقى السؤال المؤرق: هل سنتمكن، كمجتمع، من بناء ساحة
رقمية تحتفي بالتنوع، تحمي الأضعف، وتضمن النقاش الحر دون خوف أو تهديد؟
في النهاية، ما نحتاجه
ليس فقط تنظيم القرية الرقمية، بل إرساء ميثاق أخلاقي جديد، لا يقف فقط في وجه العنف
الرقمي، بل يحمي الحقول المزروعة بالكلمات الحرة من حرائق الحذف والتمييز والخوارزميات
الخفية.
0 التعليقات:
إرسال تعليق