الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


الأربعاء، يونيو 11، 2025

الدعاية الانفصالية تتهاوى أمام المدّ المغربي في إفريقيا: عبده حقي


لم يعد الصراع حول الصحراء المغربية مجرد ملف إقليمي تديره الأطراف المباشرة، بل تحوّل إلى ساحة اختبار لمواقف عدد من الدول الإفريقية أمام الموجات المتزايدة من الاستقطاب الدبلوماسي. ومن بين هذه الدول، تبرز غانا كحالة نموذجية تكشف حجم التحديات التي تواجه الدول الإفريقية في اتخاذ مواقف واضحة من قضايا السيادة، في ظل تزاحم المصالح والضغوط الداخلية والخارجية.

في الأيام القليلة الماضية، تصدرت غانا عناوين الصحف والوكالات، بين من يرى في دعمها لخطة الحكم الذاتي المغربية تطوراً إيجابياً يعزز وحدة إفريقيا، ومن يتهمها بعدم الاتساق في تعاطيها مع قضية تعتبر من بين أطول النزاعات السياسية في القارة.

ففي تصريح مثير، انتقد النائب البرلماني الغاني ونائب رئيس لجنة الشؤون الخارجية، «نانا أسافو أدجي آيه»، ما وصفه بـ"الارتباك في الموقف الرسمي الغاني تجاه الصحراء المغربية"، محذراً من أن هذا الغموض يضر بمصداقية غانا الدولية. ورغم أن هذه التصريحات جاءت في سياق برلماني داخلي، إلا أنها كشفت عن صراع خفي داخل النخبة السياسية الغانية، بين تيار يدعو إلى الانفتاح على المغرب وتأييد مبادرته، وتيار آخر يُزايد بشعارات "حق تقرير المصير" دون أن يُبدي فهماً معمقاً لتعقيدات الملف.

ومقابل هذا التردد الداخلي، أعلنت الحكومة الغانية مؤخراً، عبر محور دبلوماسي جديد، دعمها لمقترح الحكم الذاتي المغربي كحل "جدي وواقعي وذي مصداقية" لتسوية النزاع، في انسجام مع عدد متزايد من الدول الإفريقية والأوروبية التي ترى في هذه المبادرة حلاً عملياً ومتوازناً يضع حداً للصراع المفتعل.

يأتي هذا الموقف في وقت تصعّد فيه جبهة البوليساريو حملتها الدعائية من خلال تصريحات متكررة لقيادييها. ففي نيويورك، أكد ممثل الجبهة لدى الأمم المتحدة، «سيدي محمد عمر»، استمرار ما وصفه بـ"النضال المشروع من أجل حق العودة"، وذلك في محاولة لإحياء رمزية "الكفاح المسلح" أمام تراجع الدعم الدولي للفكر الانفصالي، وغياب أي اختراق فعلي على مستوى المفاوضات.

أما في الجزائر، فقد صرح سفير البوليساريو، «خطري أدوه»، عبر قناة رسمية، بأن "الشعب الصحراوي عازم على مواصلة المقاومة حتى تحقيق الاستقلال"، مُعيداً إنتاج خطاب مأزوم لم يعد يلقى سوى الصدى داخل دوائر ضيقة، تتغذى على تقاطعات الجغرافيا السياسية بين الجزائر ومحيطها المغاربي.

 

في المقابل، يواصل المغرب تعزيز حضوره على المستويين الدبلوماسي والأكاديمي، حيث شهدت مدينة برشلونة مؤخراً نقاشاً أكاديمياً نوعياً حول مقترح الحكم الذاتي، بمشاركة باحثين دوليين وأساتذة جامعيين، ما يعكس رغبة الرباط في توسيع جبهة التأييد داخل الأوساط الفكرية والنخبوية الأوروبية، بعيداً عن المزايدات الأيديولوجية التي تتبناها بعض الجهات الداعمة للبوليساريو.

وفي محاولة لتكثيف حضورها الرمزي، شاركت ما تسمى بـ"الجمهورية الصحراوية" الوهمية في أعمال الدورة الخمسين للجنة الممثلين الدائمين بالاتحاد الإفريقي. ورغم الطابع البروتوكولي لهذا الحضور، إلا أنه يعكس استمرار الجزائر في توظيف المنظمة الإفريقية كأداة دبلوماسية لإضفاء الشرعية على كيان غير معترف به من طرف الأمم المتحدة، ولا يحظى بأي تمثيلية فعلية على الأرض.

من جهة أخرى، حرصت بعثات البوليساريو في أمريكا اللاتينية على تنظيم فعاليات رمزية مثل إحياء "اليوم الوطني للشهيد" في كوبا، وتقديم أفلام وثائقية موجهة للرأي العام الطلابي هناك. ورغم ضآلة تأثير هذه المبادرات، فإنها تُظهر محاولات الجبهة لتثبيت حضورها في المشهد الدولي، ولو عبر الشعارات الطنانة.

إن الصراع حول الصحراء ليس صراعاً بين "محتل" و"محكوم"، كما تحاول البوليساريو أن تُصور، بل هو صراع حول النموذج: نموذج الوحدة الترابية والسيادة الوطنية في مقابل نموذج التفتيت والانفصال. وما بين هذا وذاك، تقف الدول الإفريقية مثل غانا في مواجهة مع سؤال السيادة ومسؤولية التاريخ.

إن دعم غانا الأخير لمبادرة الحكم الذاتي يُعد خطوة في الاتجاه الصحيح، تعكس وعياً متزايداً لدى بعض النخب الإفريقية بأن استمرار تأييد أطروحات البوليساريو لا يخدم إلا أجندات خارجية تُغذي النزاعات وتُعيق التنمية والاستقرار. فالمغرب، على مدار العقدين الأخيرين، قدّم تصوراً عقلانياً ومبنيّاً على شراكات تنموية في الأقاليم الجنوبية، يشمل مشاريع بنى تحتية كبرى، استثمارات اقتصادية، وتكريس الجهوية المتقدمة، مما يبرهن على أن الحل لا يكمن في إنشاء دويلة مفترضة، بل في تمكين السكان المحليين ضمن سيادة وطنية كاملة.

لقد آن الأوان للقارة الإفريقية أن تتجاوز منطق "الانقسام الرمزي" الذي تُغذيه جهات مؤدلجة، وأن تتجه نحو المواقف الواقعية التي تكرس الاستقرار. فالمطلوب اليوم ليس فقط مواقف سياسية، بل رؤية موحدة تعترف بأن الوحدة الوطنية للدول الإفريقية هي حجر الأساس لأي تنمية أو اندماج إقليمي.

 

في نهاية المطاف، فإن قضية الصحراء المغربية تُمثل اختباراً جماعياً للوعي السياسي الإفريقي، وموقف غانا الأخير، يفتح الباب أمام إعادة تموضع إفريقي أكثر جرأة ووضوحاً، خاصة إذا تم تعزيز هذا التوجه بمبادرات مشتركة للتنمية والاستثمار في الأقاليم الجنوبية، بدل الترويج لأوهام الانفصال ومسرحيات "الجمهوريات الورقية".

فهل يكون هذا التحول في موقف غانا بداية لصحوة سياسية إفريقية جديدة؟

الجواب، كما هي العادة، يحدده التزام الدول الإفريقية بخياراتها، وقدرتها على التحرر من إرث الاصطفافات الإيديولوجية القديمة منذ الحرب الباردة.

0 التعليقات: