منذ أن انطلقت موجة الحديث عن "الميتافيرس"، شعرت أني أمام انعطافة وجودية أكثر منها تكنولوجية، أمام عالم يشبه الحلم ويقلب قوانين التفاعل البشري رأساً على عقب. لا أتحدث هنا عن خيال علمي طوباوي، بل عن تحول حقيقي بدأت ملامحه تتجسد في مختبرات Meta، وبيئات الواقع الافتراضي التي طورتها شركات مثل مايكروسوفت وآبل وروبلوكس. والمفارقة أن هذا التحول لا يُعيد تشكيل فضاءنا الخارجي فقط، بل يعيد تشكيل الذات وطبيعة حضورها في العالم.
ما يشدني إلى الميتافيرس
ليس فقط إغراؤه التكنولوجي، بل طبيعته الفلسفية العميقة؛ فهو مساحة تتحدى التعريفات
التقليدية للمكان، وتذيب الحدود بين الجسد والصورة، بين الوجود الواقعي والتمثيل الرمزي.
كيف سيتغير التفاعل البشري حينما لا نحتاج إلى أعين لكي نرى الآخر، بل إلى نظارات ذكية؟
كيف سيُعاد تعريف الحميمية والصداقات والعمل حينما تصبح اللقاءات جميعها مشفّرة، مُرمّزة،
ومعلّقة في فضاء افتراضي يشبه اللازمن واللامكان؟
في كتابه «The Metaverse:
And How it Will Revolutionize Everything»، يتحدث Matthew Ball عن الميتافيرس بوصفه الامتداد الطبيعي للإنترنت،
ولكن ليس بوصفه مجرد بيئة رقمية، بل كنظام بيئي كامل يعيد تشكيل البنى الاقتصادية والاجتماعية
والنفسية. وهنا تبرز الأسئلة الكبرى التي تشغلني كمغربي يعيش في مجتمع تحكمه لا مركزيات
متعددة: هل نحن مهيّأون ثقافياً واجتماعياً لولوج هذا العالم الجديد؟ هل ستتسع هويتنا
الجماعية لتستوعب "الأنا الرقمية" الجديدة التي ستتشكل في الميتافيرس؟
في الميتافيرس، لا
حدود للذات، ولا معنى للجغرافيا. هذا في ظاهره تحرير، ولكنه يخفي إشكاليات عميقة. في
المغرب، نحن ما زلنا نعيش توترات الهوية بين الأمازيغي والعربي، بين الحداثي والتقليدي،
فكيف سنُعيد صياغة هذه التوترات في فضاء لا يخضع لأي مرجعية ثقافية ثابتة؟ ألن يؤدي
الأمر إلى نوع من "الانفصام الرمزي" حيث نجد أنفسنا منقسمين بين ذاتنا الواقعية
ونسختنا الافتراضية؟
ثم هناك بُعد اقتصادي
لا يمكن تجاهله. فالميتافيرس، كما يراه الباحثون في
"MIT
Technology Review"،
ليس فقط مجالاً للتفاعل الاجتماعي بل سوقاً رقمياً ضخماً ستُدار فيه العقود، وتُبنى
فيه المشاريع، وتُنشأ فيه أعمال فنية وموسيقية وهويات مهنية جديدة. لكن هذا الاقتصاد
الجديد، القائم على رموز NFT وسلاسل
الكتل
(Blockchain)،
قد يعمّق الفجوة الرقمية بين الشمال والجنوب، وبين المركز والهامش، وبين من يملكون
أدوات التكنولوجيا ومن يلهثون خلفها. فهل ستشارك مدن مثل فاس أو ورزازات أو الحسيمة
في اقتصاد الميتافيرس، أم ستظل مجرد مستهلكة لمنتجاته الرمزية؟
ما أخشاه، في نهاية
المطاف، هو أن يتحول الميتافيرس من حلم ديمقراطي إلى منظومة رقابية جديدة، أشد ضراوة
من كل الأنظمة السابقة. عندما نصبح صوراً ثلاثية الأبعاد، وبيانات قابلة للتتبع، فإن
الخصوصية ستتحول إلى حلم مستحيل. وقد صدق الفيلسوف الكوري الجنوبي بيونغ-تشول هان عندما
قال إن "الشفافية الكاملة لا تُنتج الحقيقة بل تُنتج السيطرة". وإذا كانت
السيطرة في القرن العشرين تقوم على الأيديولوجيا، فإنها في الميتافيرس تقوم على البيانات.
ومع كل ذلك، لا أستطيع
أن أنكر شعوري بالإثارة. ففي كل مرة أقرأ مقالاً في مجلة Wired أو Nature Digital Futures حول تطبيقات الميتافيرس في التعليم أو العلاج
النفسي أو الفن الرقمي، أشعر أن أمامنا فرصة ذهبية لصياغة نماذج مغربية جديدة في التفاعل
الإنساني. نموذج لا يقتصر على استهلاك التقنيات بل يبتكر من داخلها، يتفاعل معها من
موقع النقد والخبرة، لا من موقع التبعية والانبهار.
ربما نحتاج اليوم إلى
خطاب فكري مغربي يواكب هذا التحول، يزاوج بين ابن خلدون وميتافيرس، بين الذاكرة الرقمية
والسيرة الجماعية، بين "العالم المفتوح" في ألعاب الفيديو و"العالم
المغلق" في ذاكرتنا السياسية. فالرهان ليس فقط على التكنولوجيا، بل على كيفية
إعادة تشكيل الإنسان في ظلها.
هل نحن مستعدون لأن
نكون بشراً افتراضيين دون أن نفقد إنسانيتنا؟ سؤال أتركه مفتوحاً، تماماً كما يترك
الميتافيرس أبوابه مشرعة أمام خيال لا ينتهي.
0 التعليقات:
إرسال تعليق