الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


السبت، يونيو 07، 2025

"النضال اللاعنفي: النظريات والاستراتيجيات والآليات"


أصدر مركز جسور للترجمة والنشر مؤخرًا الترجمة العربية لكتاب بالغ الأهمية في مجال الدراسات السياسية والاجتماعية بعنوان "النضال اللاعنفي: النظريات والاستراتيجيات والآليات" من تأليف الباحثة الأمريكية شارون إريكسون نيبستاد، وقد تولّى ترجمته الباحث والمترجم ناصر ضميرية، ليكون مرجعًا ثريًا باللغة العربية لكل من يسعى لفهم ديناميات التغيير الاجتماعي والسياسي عبر الوسائل السلمية.

الكتاب لا يقدّم مجرد سردٍ نظري، بل ينطلق من بيانات وإحصائيات دقيقة ترسم ملامح فارقة بين الصراعات المسلحة وتلك التي تتبنى اللاعنف كنهج استراتيجي. فوفق ما تشير إليه الدراسات المستندة إلى حالات عالمية متعددة، فإن التحولات السياسية التي اعتمدت أسلوب اللاعنف كانت أسرع، وأكثر استقرارًا، وأوفر حظًا في ترسيخ الديمقراطية. إذ تستغرق النضالات اللاعنفية الناجحة عامين في المتوسط لتحقيق أهدافها، مقابل ثمانية أعوام للصراعات المسلحة، كما أن فرص نشوب حرب أهلية في أعقاب تحوّل لاعنفي تقل بكثير مقارنة بالتحوّلات الناتجة عن العنف.

وفي قلب هذا الطرح، يقدّم الكتاب نقلة نوعية في الخطاب المتعلق بالمقاومة السلمية، فهو يتجاوز الصورة النمطية التي تربط اللاعنف بالاستسلام أو السلبية، ليُظهره كمنظومة شاملة تقوم على التحليل والتخطيط وتعبئة المجتمع. فالمقاومة المدنية لا تُختزل في الرمزية، بل هي فعل واعٍ يستند إلى استراتيجيات تستقرئ السياقات السياسية والثقافية والتاريخية وتبني تحرّكها على أساس فهمٍ عميق لمكامن القوة والضعف داخل السلطة والمجتمع على السواء.

ويعيد هذا الكتاب الاعتبار لروّاد فكر اللاعنف، بدءًا من غاندي الذي رسّخ المبادئ الأولى لهذا الخيار الأخلاقي والسياسي، مرورًا بـجين شارب الذي قدّم نموذجًا عمليًا ومؤسسيًا للمقاومة اللاعنفية يقوم على تفكيك ركائز الحكم الاستبدادي، وصولًا إلى التحليل المقارن المبني على تجارب حديثة موثقة.

ولا يتوقف الكتاب عند التنظير، بل يتناول بتفصيل المفاهيم الأساسية، والمصطلحات المحورية، والتجارب الدولية، ليكون بمثابة خريطة معرفية تساعد النشطاء والباحثين وصنّاع القرار على فهم الآليات التي تجعل من اللاعنف خيارًا استراتيجيًا ناجحًا، لا مجرد رد فعل أخلاقي أو عاطفي.

من الجدير بالذكر أن المصادر والمراجع التي اعتمدها الكتاب تمثل بذاتها قيمة موسوعية، إذ تشمل طيفًا واسعًا من الأدبيات التي تناولت النضال اللاعنفي من زوايا متعددة، ما يجعل من هذا العمل مرجعًا أكاديميًا مركزيًا لكل من يسعى للتعمق في هذا المجال.

بكل بساطة، يقدم هذا الكتاب رؤية جديدة تُظهر أن اللاعنف ليس ضعفًا، بل علم وفن في إدارة التغيير، وأن الشعوب قادرة على قلب موازين القوى دون إطلاق رصاصة واحدة، إذا ما توفرت لها المعرفة والإرادة والإستراتيجية.

0 التعليقات: