إن منح جائزة غونكور لعام 2024 للكاتب الجزائري كمال داوود عن روايته "حورس" يشكل لحظة ثقافية وأيديولوجية فارقة في الأدب الفرنكوفوني. إن هذا الاحتفاء، وهو أحد أكثر وأشهر التكريمات المرموقة في العالم الفرنكفوني، يحمل دلالات تتجاوز الاستحقاق والجدارة الأدبية، وتتشابك مع تاريخ معقد من الاستعمار واللغة والهوية الثقافية... فما الخلفيات إذن النقدية والإيديولوجية والثقافية والفرنكوفونية التي تؤطر هذا الإنجاز البارز واللافت للاهتمام . وكيف عبر الأديب الجزائري - وخاصة كما هو ممثل في "حورس" - عن حوار غني مع التقاليد الأدبية الفرنسية مع تأكيد هوية ثقافية مميزة ومعالجة القضايا الاجتماعية والسياسية المعاصرة.
ولد كمال داود عام
1970 في مستغانم بالجزائر، ونشأ في وقت كانت فيه البلاد تكافح من أجل ترسيخ هويتها
بعد الاستقلال عن فرنسا عام 1962. إن تجاربه خلال الحرب الأهلية الجزائرية في التسعينيات،
والتي يشار إليها غالبًا باسم "العشرية السوداء"، تؤثر كثيرا وبشدة على رواياته.
لقد تميزت هذه الفترة بالصراع العنيف بين الحكومة والجماعات الإسلامية، مما أدى إلى
معاناة أليمة وواسعة النطاق وأزمة هوية لكثير من الجزائريين.
إن السياق الأيديولوجي
المحيط بفوز كاتب جزائري بجائزة غونكور متشابك بشكل عميق مع الإرث المعقد للاستعمار
الفرنسي في شمال أفريقيا ككل. إن تاريخ الجزائر مع فرنسا، الذي اتسم بحكم استعماري
وحشي انتهى في عام 1962 بحرب استقلال طويلة الأمد، لا يزال يشكل جزءًا غير محسوم من
النفسية والهوية الوطنية. لقد خلقت هذه العلاقة التاريخية مشهدًا أيديولوجيًا متعدد
الأوجه يغرس في الأدب الجزائري الفرنكفوني تيمات المقاومة واستعادة الهوية والسعي لتحقيق
العدالة التاريخية. إن الفوز بجائزة غونكور، وهي رمز من رموز الهيبة الثقافية الفرنسية
على المستوى العالمي، يشكل بيانًا أيديولوجيًا معقدًا بقلم ولسان كاتب جزائري. إنه
يؤكد على التشابك الثقافي المستمر مع تسليط الضوء أيضًا على مرونة الهوية الجزائرية
وتميزها في مواجهة المحو التاريخي.
في رواية "حورس"
، يتناول المؤلف موضوعات النسيان التاريخي والأسطوري وإعادة بناء الهوية. ومن خلال
عنونة الرواية باسم إله مصري "حورس"، يستحضر أساطير شمال إفريقيا، مما يشير
إلى محاذاة أيديولوجية متعمدة مع المرجعيات الثقافية ما قبل الكولونيانية والأصلية.
ويتماشى هذا مع حركة واسعة بين الكتاب الجزائريين الذين يسعون إلى التنقيب في
أغوار تاريخ شمال إفريقيا وإعادة صياغته في مقابل السرديات الكولونيانية. وبالتالي
فإن الموقف الإيديولوجي في رواية "حورس" يعمل كاستعادة للوكالة، ويدعو القراء
إلى إعادة النظر في هوية الشمال الإفريقي من خلال مجهر غير ملوث بالتفسير والتأويل
الاستعماري. إنه يشير إلى مقاومة التجانس الثقافي وتأكيد الهوية المتعددة الأوجه التي
تشمل كل من صدمة الاستعمار وفخر التراث التاريخي والثقافي العميق الجذور.
إن العالم الفرنكوفوني
هو عبارة عن مجال ثقافي مترامي الأطراف يشمل المستعمرات الفرنسية السابقة في مختلف
أنحاء أفريقيا ومنطقة البحر الكاريبي وأجزاء من آسيا. ويتميز الأدب داخل المجتمعات
الفرنكوفونية بأصوات متنوعة تعكس غالبًا هويات معقدة تشكلت من خلال تقاطع التقاليد
المحلية والتأثير اللغوي والثقافي الفرنسي. وقد احتل الكتاب الجزائريون منذ فترة طويلة
مساحة مميزة ومتفردة داخل الأدب الفرنكوفوني، حيث يمكن اعتبار استخدام اللغة الفرنسية
بمثابة بقايا من الحكم الاستعماري وأداة لاستعادة الصوت بالوكالة.
بالنسبة للعديد من
الكتاب الجزائريين، بما في ذلك مؤلف رواية "حورس" كمال داوود ، فإن الكتابة
باللغة الفرنسية تقدم ثنائية متناقضة. فمن ناحية، توفر اللغة الفرنسية إمكانية الوصول
إلى جمهور أوسع من القراء وإمكانية تحقيق الاعتراف في الدوائر الأدبية المرموقة مثل
جائزة غونكور. ومن ناحية أخرى، تحمل اللغة الفرنسية ثقل الضغط الاستعماري، مما يخلق
توتراً بين احتضان اللغة ومقاومتها. وقد يزعم بعض النقاد أن الكتابة باللغة الفرنسية
تكرس التبعية الثقافية، لكن آخرين يرونها عملاً تدميريا باستخدام لغة المستعمر السابق
لانتقاد الهوية الجزائرية وإعادة تصورها.
كما يلعب المجال الثقافي
الفرنكوفوني دورًا في إضفاء الشرعية على الأصوات غير الأوروبية وتعزيز منظور عالمي
داخل الأدب الفرنسي. لقد كان للكتاب الجزائريين تاريخيًا حضور قوي في عالم الأدب الفرنكوفوني،
مع وجود شخصيات بارزة مثل آسيا جبار وكاتب ياسين ورشيد ميموني الذين يستكشفون تيمات
الهوية والمنفى والنقد ما بعد الكولونيالي. ورواية "حورس" استمرار لهذا التقليد،
وتؤكد على مكانة الجزائر داخل المشهد الأدبي الفرنكوفوني. ومع ذلك، فإنها تثير أيضًا
تساؤلات حول حدود الأدب الفرنكوفوني.
هل يعني الفوز بجائزة
غونكور الانصهار الكامل في التجربة الأدبية الفرنسية، أم أنه يسلط الضوء بدلاً من ذلك
على تميز الأصوات الجزائرية داخلها؟
غالبًا ما يركز النقد
الأدبي للأعمال الجزائرية على موضوعات الهجرة والتهجين والنضال من أجل تحديد هوية الذات.
إن الأدب الجزائري، وخاصة الفرنكوفوني منه ، هو مساحة للحفر في إرث المنفى والصراع
اللغوي والثقافي. وتساهم "حورس" في هذا الحوار من خلال صياغة سرد خاص بالتجربة
الجزائرية وعالمية في استكشافها للهوية والذاكرة. كما يعكس التلقي النقدي للرواية تقديرًا
لهذا التعقيد الموضوعي، حيث يتحدث عن صراع إنساني شامل من أجل معرفة الذات والاستمرارية
التاريخية.
وعلاوة على ذلك، فإن
فوز رواية "حورس" بجائزة غونكور يدعونا إلى التأمل في الطبيعة المتطورة للرواية
الجزائرية الحديثة، والتي تتحدى في كثير من الأحيان التصنيفات التقليدية للأنواع الأدبية.
إن المزج بين العناصر التاريخية والأسطورية والسيكولوجية في الروايات الجزائرية عامة
يخلخل الحدود الأدبية التقليدية، ويشكل تحدياً للنقاد لتطوير ضوابط جديدة لفهم هذه
الأعمال.
في السياق الشامل للأدب
الجزائري الفرنكفوني، فإن جائزة غونكور تشكل احتفاء ولكن أيضا فرصة للتأمل. فهي تشجع
على الحفر النقدي للطرائق التي تتقاطع بها الهويات الثقافية الفرنسية والجزائرية، وتتعارض،
وتندمج داخل المجال الأدبي. كما تذكرنا الأبعاد الإيديولوجية والثقافية والنقدية لرواية
"حورس" بأن الأدب ليس مجرد مسعى فني، بل هو أيضًا موقع للتفاوض السياسي والثقافي.
إن فوز رواية جزائرية في الدوائر الأدبية الناطقة بالفرنسية يوضح القوة الدائمة للأدب
في تجاوز الحدود، واستعادة الأصوات، وإعادة تعريف الهويات داخل عالم فرنكوفوني متطور
باستمرار.
0 التعليقات:
إرسال تعليق