من بين الصفحات المتوارية في دفاتر الأمم المتحدة، تبرز المادة 73 من ميثاقها كمفارقة أخلاقية وسياسية في آن، تنص على أن "مصالح سكان الأقاليم غير المتمتعة بالحكم الذاتي لها المقام الأول"، وتضع على عاتق الدول القائمة بالإدارة مسؤولية مقدسة تجاه هذه الشعوب، بهدف إيصالها إلى شاطئ الحكم الذاتي. غير أن هذه "الوصاية المقدسة" تحولت مع الزمن إلى أداة مزدوجة: أداة تحرير لدى البعض، وآلية ابتزاز لدى البعض الآخر.
فحين أطلقت الجمعية العامة للأمم المتحدة، عام 1999، "أسبوع التضامن مع شعوب الأقاليم غير المتمتعة بالحكم الذاتي"، كانت تشير إلى ما تبقى من 17 إقليماً فقط في العالم لم ينل سكانه حق تقرير مصيرهم الكامل. لكن ما لم تقله الأمم المتحدة بوضوح هو أن مفهوم "تقرير المصير" لم يعد يُقاس فقط بمعادلة الاستقلال أو الاستعمار، بل أصبح يرتبط أكثر فأكثر بنماذج الحكم الذاتي الديمقراطية، كما هو الحال في المبادرة المغربية بشأن الصحراء.
لقد عرف المغرب، منذ طرحه لمبادرة الحكم الذاتي سنة 2007، كيف يعيد تعريف المفاهيم داخل الساحة الدولية، من خلال مشروع يمنح ساكنة الأقاليم الجنوبية تدبير شؤونهم المحلية في إطار السيادة المغربية. مبادرة وُصفت من قبل مجلس الأمن بأنها "جادة وذات مصداقية"، وتم تبنيها من قبل عدد كبير من الدول الكبرى كسبيل عقلاني لحل نزاع عمره نصف قرن. فهل نحتاج إلى تقرير مصير كلاسيكي في زمن ما بعد الاستعمار، أم إلى نموذج متجدد يحقق المصالحة بين السيادة الوطنية وحق تدبير الشأن المحلي؟
إن السياق التاريخي لإنشاء لجنة تصفية الاستعمار، أو ما يعرف بـ "لجنة الأربعة والعشرين"، كان مرتبطاً بزمن الثورات والانفصالات. وقد استطاعت هذه اللجنة، منذ ستينيات القرن الماضي، أن تواكب عملية استقلال أكثر من 80 مستعمرة سابقة تضم نحو 750 مليون نسمة. غير أن الواقع السياسي والديمغرافي الجديد يجعل من غير المنطقي أن نستمر في استخدام نفس أدوات الأمس لتفكيك قضايا اليوم.
ويستوقفنا أن الصحراء المغربية، بالرغم من إدراجها التاريخي في قائمة الأقاليم غير المتمتعة بالحكم الذاتي، تُدار اليوم من طرف مؤسسات محلية منتخبة، وجهات تنفيذية، وبرامج اقتصادية ضخمة بشراكة مع الاتحاد الأوروبي والبنك الدولي. فهل يعقل أن نضعها في نفس الخانة مع أقاليم صغيرة في المحيط الهادئ ما زالت تخضع لإدارة مباشرة من قوى استعمارية كلاسيكية؟
التناقض الأكبر يكمن في أن بعض الدول التي طالما ارتدت عباءة "حماية حق تقرير المصير"، مثل الجزائر، تحتضن حركة انفصالية اسمها "البوليساريو" على أرضها، وتدير مخيمات تندوف خارج القانون الدولي والرقابة الأممية، دون أن تسمح للسكان هناك حتى بإجراء إحصاء سكاني منذ أكثر من أربعة عقود. إنها المفارقة العظمى: دولة تنادي بتصفية الاستعمار بينما تؤوي فوق ترابها وضعاً استعمارياً مصغراً.
في المقابل، فإن الرباط فتحت الباب أمام كل الوساطات، وطرحت حلاً ينسجم مع المبادئ الأساسية لميثاق الأمم المتحدة، وعلى رأسها مبدأ السيادة الوطنية مقروناً بمبدأ المشاركة السياسية. وهو ما يجعل من الحكم الذاتي المقترح للصحراء المغربية ليس مجرد حل سياسي، بل ميثاقاً إنسانياً وتنموياً يستجيب لأهداف الأمم المتحدة نفسها: تنمية الإنسان، وتمكين الشعوب، وتحقيق السلم.
اليوم، وبعد أكثر من نصف قرن على انطلاق مسلسل تصفية الاستعمار، ينبغي للأمم المتحدة أن تعيد قراءة لوائحها، لا بمنطق الحنين إلى سرديات التحرر، بل بمنطق الواقع والفعالية. والواقع يقول إن الصحراء المغربية تعيش دينامية مؤسساتية غير مسبوقة، وأن مشروع الحكم الذاتي لم يعد مجرد ورقة دبلوماسية، بل ورشاً مفتوحاً على الأرض، تسهر على تنفيذه مؤسسات منتخبة من أبناء وبنات الإقليم أنفسهم.
ولعل "الأمانة المقدسة" التي يتحدث عنها ميثاق الأمم المتحدة تجد معناها الأعمق حين يتحول الحكم الذاتي إلى عقد اجتماعي داخلي يربط بين السكان والدولة، لا حين يُختزل في شعار رفعته حركات مسلحة في سياقات الحرب الباردة. فالصحراء المغربية اليوم ليست قضية تصفية استعمار، بل نموذج متقدم لإنهائه على أساس العقل والتوافق، لا القطيعة والانفصال.
0 التعليقات:
إرسال تعليق