لقد نشأت بين دفتي الورق، لكني أعيش اليوم في عالم رقميّ تتكاثر فيه النصوص كما تتكاثر النجوم في سماء بلا ذاكرة. كنت أظن أن الأدب الرقمي سيجعل من كل نصٍّ ولِد في حضن الشاشة كائناً خالداً، محصناً ضد التلف، قابلاً للاسترجاع بنقرة، أو استدعاء بمحرك بحث. لكن الواقع، كما تشير إليه دراسات الأرشفة الرقمية، يُظهر العكس تماماً: نحن أمام أزمة حقيقية في حفظ الأدب المولود رقمياً، ذلك الذي لم يعرف مطبعة ولا توقيعاً ورقياً، بل وُلد في التدوينات، والانفجارات النصية، والمجتمعات الافتراضية.
في السنوات الأخيرة،
أصبحت «الكتابة الرقمية الولادة» (Born-Digital Literature) ظاهرة أدبية مستقلة بذاتها، كما وصفها الباحث Matthew
Kirschenbaum في كتابه «Mechanisms: New Media and
the Forensic Imagination». لا نتحدث هنا فقط عن روايات إلكترونية، بل عن أعمال تفاعلية، نصوص هايبردية،
قصائد حركية، ورسائل إلكترونية أدبية... نصوص تنبض بروح الزمن الرقمي، لكنها، يا
للمفارقات المفارقات، مهددة بالاندثار السريع، لأنها لا تترك
أثراً مادياً يحميها من الفقدان.
لقد لاحظت، من خلال
تجربتي الشخصية، أن عدداً من المشاريع الأدبية المغربية التي ازدهرت في أوائل الألفية،
على منتديات مثل «منتديات الورّاق» أو «الساخر» أو حتى مدونات شخصية رائدة، اختفت ببساطة
من الفضاء الرقمي. لم يبقَ منها غير شذرات محفوظة في أرشيفات الويب أو في ذاكرتنا نحن،
شهود تلك المرحلة. هذه الظاهرة تؤكد ما أشار إليه تقرير «مكتبة
الكونغرس» الأمريكي
حول «فجوة الأرشفة الرقمية»، والذي حذّر من أن 70% من المحتوى الرقمي الذي يُنتَج يومياً،
معرض للضياع خلال سنوات قليلة.
هل نبالغ حين نقول
إن هذا العصر، رغم وفرة أدواته، هو أكثر العصور تهديداً للذاكرة الأدبية؟ لا أظن. لأننا
في مرحلة لا تملك فيها أغلب المؤسسات الثقافية، لا في المغرب ولا في دول الجنوب عموماً،
سياسات واضحة لحفظ النصوص الرقمية، ولا آليات تصنيف أو رقمنة منهجية. حتى الجامعات
المغربية، التي انخرطت مؤخرًا في الرقمنة، ما تزال تُهمل أشكال الأدب التفاعلي أو الأعمال
الأدبية التي تتوزع بين النص والصورة والفيديو والشفرة.
هنا يبرز سؤال وجودي:
من المسؤول عن أرشفة هذا الأدب؟ هل هي الدولة؟ أم الكتاب أنفسهم؟ أم مبادرات مدنية
عابرة؟ في رأيي، لا يمكن أن نحمي الذاكرة الرقمية الأدبية إلا بتضافر كل هذه الجهات.
لا بد من هيئة مستقلة تجمع ما بين خبرة التكنولوجيا، وحساسية الأدب، ووعي الأرشفة،
على غرار مشروع
«The Electronic Literature Organization» الذي تأسس في الولايات المتحدة منذ 1999 لحفظ وتوثيق
الأدب الرقمي.
في المغرب، لا تزال
المبادرات متفرقة، ومعظم ما يُكتب رقمياً لا يُعتبر تراثاً بعد. هناك جيل من الكتّاب
الرقميين لا يُقرأ إلا في فيسبوك، وجيل من القصص لم يُطبع، لكنه يحظى بتفاعل الآلاف.
ومع ذلك، لا تزال هذه الكتابات خارج معايير النشر، وخارج حسابات الذاكرة الرسمية. وكأننا
نكتب على الرمل، لا ننتظر أمواج النسيان، بل نكتب تحتها مباشرة.
حين قرأت دراسة «يونسكو» حول «الذاكرة الرقمية المهددة»، أدركت أننا
نعيش مفارقة تشبه أسطورة سيزيف. كل نص رقمي نكتبه، هو حجر جديد نرفعه إلى قمة جبل النشر
الرقمي، لكنه يتدحرج سريعاً إذا لم نحمه بالنسخ، والتوثيق، والمواكبة التقنية. ومن
دون ذلك، تصبح كل تجربة رقمية مجرد صدى يتلاشى.
هل من سبيل للمقاومة؟
أعتقد أن الأدباء أنفسهم مطالبون اليوم بأن يكونوا أيضاً مؤرشفين، أن يتعلموا، كما
فعل بول أوستر، كيف يصنعون أرشيفهم الشخصي. ويبدو لي أن هذا العمل الفردي ينبغي أن
تدعمه سياسات عمومية: لماذا لا تُمَوَّل منصات وطنية لحفظ الإنتاج الرقمي الأدبي؟ لماذا
لا تُدرَّس مادة «أدب رقمي مغربي» في كليات الآداب؟ لماذا لا تُجمع المدونات المغربية
الرائدة في أرشيف وطني؟ الأسئلة كثيرة، والإجابات لا تزال في الانتظار.
أخشى أن يأتي وقت نبحث
فيه عن الجيل الأول من الكتاب الرقميين المغاربة، فلا نجد لهم أثراً. لا لأنهم لم يكتبوا،
بل لأننا لم نؤمن أن النص الرقمي يستحق الحفظ. في النهاية، ليست قيمة الأدب في مادته،
بل في أثره... وإذا لم نحفظ هذا الأثر، نكون كمن أشعل شمعة في العتمة ثم نفخ فيها بيده.
لهذا أكتب، لا لأتذكر
فقط، بل لأدق جرس الإنذار. فكما نحفظ المخطوطات ونرممها، يجب أن نحمي ما وُلد على الشاشة،
لأنه يحمل روحنا الرقمية، وحكايات عصر لن يُروى إلا إذا أبقيناه حيًّا في ذاكرة تحفظه،
لا ذاكرة تمحوه.
0 التعليقات:
إرسال تعليق