يشكّل التعليم في أي مجتمع البوابة الكبرى لتشكيل العقول وصناعة المستقبل. فالمناهج ليست مجرد مقررات تقنية أو نصوص جامدة، بل هي منظومة قيمية ومعرفية تُسهم في صياغة علاقة الأفراد بأنفسهم وبالعالم. في السياق العربي، يطفو على السطح إشكال بنيوي: غياب الفلسفة كممارسة للتفكير النقدي، مقابل حضور الدين بوصفه المرجعية الكبرى التي تؤطر أغلب المواد التعليمية. هذا التناقض هو مرآة لموازين القوى بين سلطات الفكر والسلطة السياسية والدينية في مجتمعات ما زالت تبحث عن توازن بين الأصالة والحداثة.
الفلسفة ليست مادة
ثانوية أو ترفاً ذهنياً كما يُعتقد أحياناً، بل هي ممارسة تعلم الإنسان فن السؤال،
وتحريره من أسر الجواب الجاهز. حين يُقصى هذا البعد من التعليم، كما هو حال عدد من
المناهج العربية، يتقلص أفق المتعلم إلى مجرد التلقي والحفظ، دون قدرة على إنتاج المعرفة
أو مساءلة الواقع.
في المغرب مثلاً، عرفت
مادة الفلسفة مساراً متقلباً: إقصاء في السبعينيات بدعوى “خطورتها” على العقيدة والسياسة،
ثم عودة محتشمة في التسعينيات ضمن مقاربة جديدة تجعلها أداة للانفتاح على قيم المواطنة
وحقوق الإنسان. أما في مصر، فقد حُوصرت الفلسفة لسنوات طويلة باعتبارها مجالاً مريباً
أو مشبوهاً، قبل أن تعود بجرعات محدودة في بعض الشعب الثانوية. في تونس، ورغم الإرث
البورقيبي الذي منحها مكانة معتبرة، ظل حضورها مهدداً أمام موجات المدّ الديني.
لا أحد ينكر أن الدين
عنصر أصيل في الثقافة العربية الإسلامية، وله دور روحي وأخلاقي لا غنى عنه. لكن حين
يُستبدل بالتفكير الفلسفي، ويتحوّل إلى محور شبه وحيد للمناهج، يتحول التعليم إلى أداة
للتوجيه الإيديولوجي أكثر من كونه مجالاً لإنتاج مواطن نقدي.
المشكلة ليست في تدريس
الدين بحد ذاته، بل في الطريقة التي يُدرّس بها: نصوص جامدة تُفرض كحقائق مطلقة، دون
فسحة للحوار أو التأويل. والنتيجة أن المتعلم يتشبع باليقينيات المطلقة، لكنه يظل عاجزاً
عن فهم تعددية العالم، وعن التعامل مع الأسئلة الكبرى في عصر التكنولوجيا والعولمة.
غياب الفلسفة وحضور
الدين لا يقتصر أثره على سلوك التلميذ في الفصل، بل ينعكس على بنية المجتمع كله.
التربية على الطاعة:
مناهج تُقصي السؤال وتكرس الحفظ تعلّم الطفل منذ صغره أن يطيع دون نقاش. فيصبح مواطناً
مستسلماً أمام السلطة السياسية، غير قادر على ممارسة النقد أو المشاركة الفاعلة في
القرار العام.
ضعف المشاركة الديمقراطية:
غياب التربية الفلسفية يحرم الأجيال من أدوات التفكير الجدلي والحوار، ما يجعل الديمقراطية
نفسها سطحية أو مهددة بالانهيار.
انتشار الفكر المتشدد:
حين يُغلق باب السؤال الفلسفي، يُفتح المجال أمام الخطابات الأصولية التي تقدم أجوبة
جاهزة وبسيطة لأسئلة معقدة، مستقطبةً الشباب نحو التطرف.
المغرب: عرفت مناهج
الفلسفة إصلاحات متكررة، خاصة مع الميثاق الوطني للتربية والتكوين (1999) الذي أعاد
الاعتبار للمادة. ومع ذلك، ظل النقاش محتدماً حول هامش الحرية الممنوح للمدرس، وحول
هيمنة الخطاب الديني في باقي المواد.
تونس: تعتبر التجربة
التونسية أكثر تقدماً نسبياً، إذ نجحت في جعل الفلسفة مادة إلزامية في التعليم الثانوي،
ما ساهم في تكوين أجيال ذات حس نقدي، لكن التحديات عادت مع صعود التيارات الدينية في
العقد الأخير.
مصر: تظل الفلسفة في
وضع ثانوي، بينما الطابع الديني للمناهج قوي، ما جعل النقاش حول الإصلاح التعليمي جزءاً
من معركة أوسع بين التيارات العلمانية والدينية.
إصلاح مطلوب: من التربية
على الطاعة إلى التربية على الحرية
الحل لا يكمن في إقصاء
الدين من التعليم، فهذا وهم لا ينسجم مع طبيعة مجتمعاتنا. المطلوب هو إعادة التوازن:
إصلاح مناهج التربية
الدينية بحيث تُدرّس بروح إنسانية، تُشجع على التسامح والاختلاف، بدل الانغلاق واليقينيات
الجامدة.
تعزيز مكانة الفلسفة
ليس كمادة مستقلة فقط، بل كروح تسري في مختلف المواد عبر أسئلة النقد والتحليل.
تشجيع الحوار بين الدين
والفلسفة بحيث يُقدَّم الدين كأفق روحي وأخلاقي، والفلسفة كأفق عقلاني نقدي، ليكتشف
المتعلم أن الانتماء الديني لا يتعارض مع التفكير الحر.
تكوين المدرّسين بشكل
يضمن قدرتهم على تدريس الفلسفة والتربية الدينية بعيداً عن التلقين الإيديولوجي.
إن بناء مجتمع حديث
يحتاج إلى مواطن يفكر، يناقش، ويشارك. ولن يتحقق ذلك دون مصالحة شجاعة مع الفلسفة،
ودون تحرير الدين من التوظيف الإيديولوجي الضيق.
قد يبدو هذا الرهان
صعباً في ظل موازين القوى الحالية، لكنه شرط أساسي لأي انتقال ديمقراطي أو مشروع تنموي
حقيقي. فالعقول التي تُربّى على الطاعة لا تصنع المستقبل، بينما العقول التي تُدرّب
على النقد والحرية قادرة على مواجهة تحديات القرن الحادي والعشرين.
0 التعليقات:
إرسال تعليق